نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
 
أحمد محمد الشيخ "الجاغريو"، هذا اسم لن يغيب عن ذاكرة الغناء السوداني. تغنّى بكل أجناس الغناء: النمط "الحقيبي"، والدوبيت، والشعبي. كتب الوجدانيات التي اتصلت بحياته، تجربةً معاشةً لا خيالًا. كتب حلو الأشعار بصوته العذب، ثم تغنّى بأشعاره، وهكذا تصل الرسالة بكمال صدقها، إذ إن الشاعر هو المغني، فتأمل!
كان قصير القامة، وهكذا كان الحطيئة، غير أن الجاغريو كان وسيماً، أنيقاً، مشبوب العاطفة. تناولت أشعاره جلّ صور الحياة ومكوّناتها؛ تغنّى لـ"الطاقية" و"المنديل"، وكان الشعر قناته للتعبير عن الحياة. كان غزير الإنتاج، مشفوعاً برصانة وعلوٍّ بلا تدنٍ.
"في ربوع بحري لاقيتو
فتح قلبي وسكن فيهو
بخمرة حبو أسقاهو"
انظر إلى سهولة المفردات وعفويتها، كيف أحالها "الجاغريو" لحنًا شجيًّا يصبّ في قرار النفس.
وللجاغريو أقصوصة تُروى، هي أقرب إلى سيرة إمام العذريين جميل بن معمر، صاحب بثينة، وفي تفاصيلها تشابه مذهل: حبّ، ولهٌ، ثم افتراق.
قيل إنه كان مدنفًا بحب إحدى صبايا الخرطوم، لا يبرح الحيّ إلا لمامًا. وقال الراوي: إنه سعى، ضاربًا في الأرض، لترتيب شؤون زواج يجمع بين شتيتين، وقيل إنه كاد يبلغ مجمع البحرين، حتى إذا عاد يحمله جناح طائر، كانت المأساة؛ لقد سبق السيف العذل.
لوعة جسورة اجتاحت قلب "الجاغريو"، يناجي القلب، جعله يفرّ بجناحين ويطير. وهنا تتجلّى ثقافة الشاعر المتصلة بجذور قديمة، ولكم وردت هذه المعاني في كتاب الشعر العربي:
"شكت الألم من لمسان حجولة
ليه بي فراقا الأيام عجولة"
ويشكو زمانه أيضًا، ويقتفي أثر أبي العلاء المعري، فالشوق لا يبدله زمان، هو الشوق وفعله، هو أقدم الأحاسيس.
انظر إلى "المعري" يسجع في آيات من بديع الغزل، هو ذات المعنى الذي أدركه "الجاغريو"، إذ يقول صاحب المعرة:
"ويا أسيرة حجليها أرى سفهاً
حمل الحليّ لمن أعيا عن النظر"
ولكأنما قيلت القصيدتان في زمان واحد.
ثم في أيامٍ وليالٍ قليلات، دوّن الشاعر قصة تلك الأقدار وأجواءها، فكتب:
"صادفني الحبيب"
"قالوا لي انساه"
ثم أعقب تينك بـ:
"وريني كيف أنساك
أنا حرت في أمري
سجلت ليك حبي
ووهبت ليك عمري
أقضي الليالي أنوح
أسامر الأنجم
أسجع مع القمري"
نافورة من الإبداع الجمالي لا تهدأ، تبثّ خيوطًا ملوّنة، تبثّها عصافير في الفضاء، تحكي قصةً، بل عذاب تلكم الروح الهائمة.
وبعد، فهذا هو أحمد محمد الشيخ "الجاغريو"، كتب أشعارًا في الحب والغزل والاجتماعيات والوطنية، وقال:
"الزارعنا غير الله ال يجي يقلعنا"
كم أثار الجماهير في الليالي السياسية، وكم بكى ورثى، وأجهش عند نعش الهندي الكبير قائلاً:
"مطر الخريف مو رش"
كتب كل هذه الأطياف الشعرية، أتراه كان يبحث عما يُنسيه تباريح الهجر والصدود؟
ليتكم تصحبونني، نطرق أبواب "الدبيبة"، بل قلوب أهلها الطيبة، نغشى "أبو السيد" سيد خليفة، الذي أُريد له أن يكون شيخًا فكان شيخًا في جنسٍ آخر من الإبداع، ثم خلف الله حمد "الكان داكا"، ويا للمتصوفة من تجلٍّ وتوهّج!
 
0 التعليقات:
أضف تعليقك