الجمعة 31/أكتوبر/2025
"بيت الذكريات".....

نبض الكلام

 

رندة المعتصم أوشي

محمد عوض الكريم القرشي، "ود القرشي" كما يناديه أصفياؤه؛ ما كان إلا منصة مغمورة بأضواء عذب
الغناء، وفتون الأشعار، نسخة، إصدار، لغة جديدة، غناء رصين،
سهل ممتنع، راق، أهل السودان فأحبوه.

الدخول لعالم القرشي يذهب بك مذاهب شتى، وكأنك تبحر في
ينبوع من الإمتاع والتشويق، غناؤه حديقة، بل حدائق ثمر ناضج
وزهر، وأريج. وقد تمضي أوقات طويلة، وأنت لا تبلغ إلا نذرًا يسيرًا
من هذه السيرة، السجل العظيم،
التاريخ البهي، المنير، الساطع.

علنا نستهل هذا "المشوار" الجميل، نقلب صفحات الشاعر، نبتدر هذا
السرد، ننظر في تجربة الشاعر الفنية، ربما بعض تجارب عديدة
مست روحه، صيرها ألحانًا مترفات بآيات الحسن البديع.

وإنك لتنظر في كل أغنيات القرشي ولوحاته المبهرة فتجد فيها روحه،
تجربته الخاصة، ترى فيها شخصك، يغمرك ذات الإحساس، فرحًا، لوعة،
وبكاء.

في الرواق الجنوبي لمستشفى الخرطوم، كان دكتور حليم يتفحص رواد الأسِرّة البيضاء، يبث آمالًا بشفاء وإبلال، وجهه الطيب المشرق، والزي الأبيض الأنيق، يا له من إنسان!!
دكتور حليم الطبيب، هو حليم الرياضي، السياسي، الأديب، ولكم له من مجالس أُنس مع المحجوب، وحسن عطية؛ ذلك كان مجلسًا رفيعًا، تجلى فيه المحجوب، كتب أغنية "فيردلونا" تغنى بها "أبو علي" طرب دكتور حليم، أسكرته الكلمات اليانعة؛ كان تنغيم "أبو علي"، صوته المنساب كشلال هامس ينصب في قرار النفوس.

كان شاعرنا محمد عوض الكريم القرشي، يستشفي في ذات الرواق،
مكث أيامًا طويلات بين تباريح الداء وشقاء البعد عن أهله، ومؤانسيه، تدور بذاكرته أطياف من صور جميلة، عامرة بالحياة.
كانت أيام الاستشفاء تلك تجربة لا تُنسى، طرح فيها أشواقه، لوعته،
أرانا كيف يعلو الشعر، يزهو الغناء، يغدو كابحًا، يمحو رائحة الأدوية،
والضمادات، كل الأزمنة، كل الأمكنة هي ساحات، مضمار، ترمح فيه خيول الشعر والغناء، ترفع رايات ملونة للحب، للحياة.

عدت يا عيد بدون زهور
وين "سمرنا" وين البدور
غابو عني
ليت لي لو عاد في المرور
يشفي دائي، يغمرني نور
يا حنانا فاض بالشعور
كيف نسيتني كنت بتزور
تلفونك بيك ما خبور
اقول الاقيك افشل اثور
غابو عني

كتب القرشي هذا النص الحزين، المشوب بحسرات، وقد نرى فيه
أقصوصة، إرهاصًا، إيناعًا لبراعم مودة، وقد تفصح بعض التعابير،
عن تفاصيل المشهد "لو عاد في المرور". وربما كان الأمر كله، أو
بعضه محض خيال، استدعاء لصور جميلة خزنتها الذاكرة.
يهمنا هنا العاطفة، البكائية التي تمور، "تتحسس الشرايين"، تفضي
لعذاب وتأريق.

ثم انظر كيف وضع الشاعر مفردة "تلفونك".. لم يقل "هاتفك"، ألا
ترى في هذا توثيقًا لمفردة "تلفون" التي اتصلت بحياة الناس وقتذاك،
أحب الناس التلفون، شريان الوصل والاتصال، بث الشكوى، والمواجع،
وجميل الكلام، وذلك الرنين الذي لا يشبه نغمات "الهاتف" اليوم.

وهذه تجربة أحالها الشاعر إلى دفاتر الغناء ببراعة، فيها شيء من غرابة، وإفلات من أنشوطة مألوف الغناء،
قد نجد القليل في تراثنا الغنائي ما يماثل هذا النص الشعري، ربما نحسه في بعض أغانينا الشعبية، غير أن الانموذج الأعظم لهذا الغرض
الشعري، هو الأغنية التي صمم كلماتها بصدق، وإبهار الشاعر الكبير
فضل الله محمد، أو تذكرون "قالوا متألم شوية"؟؟

ومن الأدب العربي الحديث، كتب رائد شعر الحداثة، بدر شاكر السياب:
"من مرضي
من سريري الأبيض"

نعود لمبتدأ الحديث وخبره، "عدت يا عيد بدون زهور" التي كتبت في
أجواء ذات خصوصية.
قال الراوي: إن بعض كبار المطربين قد اشتجروا حول من كان أسبق،
من صاحب الحق الأصيل الذي أذن له الشاعر بحيازة الأغنية...؟؟
تغنى بها زيدان، وكابلي، وعلي إبراهيم، ولكل رواية تُروى..
على كل، فالقرشي هو شاعر الأغنية وصاحب اللحن، وقيل إنه تغنى بها
أمام رفاق الأنس في الدار العامرة بعروس الرمال، وفي مدينة الثورة
بأم درمان، بيت علقت على بابه لوحة كتب عليها بخط أنيق "بيت
الذكريات".. لا يذهب بك الخيال بعيدًا عزيزي، إنه بيت عثمان الشفيع
ذاك الذي أذاقنا بصوته الفصيح، الندي، سُقيا الغناء البديع.

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار