 
            نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
قبل أن نبرح مركز إشعاع دائرتنا الأولى، "رفاعة"، دينٌ علينا أن نزجي تحيةً لمحمد عثمان عبد الرحيم، ومن ينسى حسناءه التي أذابت مشاعرنا لوعةً، طربًا وفخرًا:
"رقصت تلكم الرياض له
فتثنت غصونه اللدن"
كان حسن خليفة العطبراوي يسعى بدأبٍ لتجديد الخطاب الوطني، يبث عبره أماني وأحلام وطن:
"دونه لا يروقنا حسن"
أنشودةٌ كتبت لتبقى، هكذا أراد لها شاعرها، ابن رفاعة، محمد عثمان عبد الرحيم.
ثم كان عبد الكريم الكابلي صديقًا حميمًا للمدرّس ذي الصوت الرخيم، تزينه لثغةٌ تضفي جمالًا وعذوبة، تعي هذا وأنت تصغي لأغنيته:
"إنت يا راحل
في الفؤاد حبك
أصلو ما راحل"
كان الكابلي كثير الإعجاب بصوت عمر الشريف "ود الكابتن"، يدهشه نقاء الصوت، صفاؤه، وما يبعثه من إحساس بفرحٍ ونشوة.
قال الراوي إن كابلي أراد أن يوكِّل لعمر الشريف أداء العمل المهيب "آسيا وإفريقيا"، غير أنه أحال المنتج العظيم لنفسه، لحنًا وأداءً، ولكم تفنَّن، وأفتن، وأثار إعجابًا.
على الطرف الجنوبي لهذه الدائرة، في قريةٍ صغيرة في الحد الغربي لسهل "البطانة"، كانت قرية "مرزوق" تشهد بزوغ مقاماتٍ جديدةٍ للغناء، هنا كان أحمد الجابري. أبوه كان مادحًا، عارفًا بأصول المديح وأسراره، ولكم اتسعت حلقات المديح والإنشاد، ولكم طرب الناس، ولكم بكوا، ألقاهم المادح الشيخ تحت وطأة الشوق لـ"القبّة الخضراء" وسيدها صلوات الله عليه وسلامه.
كان أحمد الجابري يُصغي بلهف، تشجيه الأماديح، ثم يطرق سمعه حداءٌ يسري، أصواتٌ طروبة تبقيه مسهَّدًا، غير أنه يخزّن كل هذه الفنون التي ضمها ذلك السهل البديع.
كان الجابري يغني بصوت، ووالده الشيخ المادح يغني بلسانٍ آخر.
ثم قدّم أحمد الجابري الصبي، يحمل في ذاكرته تراثًا من الألحان والتطريب البِكر، تفتحت أزهار الإبداع، أشعل الجابري نارًا للغناء في "البقعة"، نثر أضواء فتون الغناء.
ثم لك أن تتأمل الجابري والعود، الأوتار تستجيب لإرادة الأنامل المبدعة.
سُئل الأستاذ "الباشكاتب" ذات أمسية، وهو يرتب أوتار "المزهر" قبيل بدء سهرةٍ مع التلفزيون، سُئل عن رأيه في مطربي اليوم، فأجاب العبقري برصانةٍ وعفوية، قال: الجابري، ثم صمت، ثم أردف، ثم قال كرةً أخرى: الجابري... ولك أن تتأمل!!
كانت "الصقيعة" — هذا هو الاسم — انظر للطف التصغير، ضاحيةً لمدينة رفاعة، على خاصرة النيل الأزرق، بلدةٌ صغيرة، غير أنها كانت موئلًا، وطنًا للشيخ "حياتي"، هذا اسمٌ يدق كطبلٍ في سوح المدح النبوي والإنشاد. عبقريةٌ لا تُبارى، شيخٌ ارتقى بفن المديح عاليًا، تفنّن في النظم، طرق من أساليب الشعر أصعبها رويًا، انظر في:
"ناهي النهو
أنا لي في زيارتو هو"
وهذا ترتيبٌ، طريقٌ، فنٌّ وفتونٌ ما عرفته أذن، ولك أن تنظر في كتاب الشعر العربي منذ أيام "الشاعر الضليل" امرئ القيس حتى زماننا هذا، فإنك لست بظافرٍ إلا بالقليل اليسير الذي يماثل هذا النظم.
كان الشيخ حياتي يروي، يمدح، يضع أصوات المديح، أماديحه ألوان؛ منها سريع الإيقاع، يماثل مشي الإبل، تسرع الخطو، تخبّ، وهذه مقاماتٌ لحنيةٌ ترددها جموع الحجاج، والقوافل تمضي.
ثم يضع روايةً أخرى، ألحانًا هادئة الإيقاع، هي للتأمل، لاستيعاب الرسالة الفقهية والتربوية، وشيءٍ من السيرة النبوية.
وفاطمة الحاج كانت نورسًا، لحنًا شاردًا أودعه الزمان، تسلل من شرفات الغناء القديم، أطلّ باذخًا في إهابٍ من أصالةٍ ومعاصرة.
"صفيتة"، هنا كان مولدها، الأب من الشمال البعيد، والأم تنتسب لشمال الجزيرة.
شجيرتان تجاورتا هنا، برتقالة و"ليمونة"، كان أنسٌ وتلاقح، ثم كانت "ثمرة اللارنج" فاطمة الحاج.
صوتها يتدفق كفوح عبير، همسٌ رقيق، الأوركسترا تشدو، يتناغم العود والكمنجات والإيقاع، ثم إنك لتُصغي، والصوت الملائكي الطروب يجاري أصوات المنظومة الموسيقية، يضيف وترًا، يضع خيط عبيرٍ على المنتج، يرتقي عاليًا.
فاطمة الحاج تغنّت للربيع، للنسيم، لـ"البسمة الوديعة"، تغنت لـ"زهر المواسم" الذي حملته في حنايا الذاكرة والروح، نثرته بحب.
فاطمة الحاج ظاهرة، اتفق عليها مبدعو ذاك العهد، أثارت إعجاب "ود البنا" — عبقري الحقيبة — شعرًا، لحنًا وغناءً، ثم العبادي، وعوض جبريل، والسر دوليب، والتاج مصطفى، وأحمد زاهر، وعبد الحميد يوسف، عباقرة ذاك الزمان صمموا لها ألحانًا خالدات.
قد ينتظر المستمع زمانًا طويلًا حتى يسمع صوتًا أسرى شجيًا كصوت فاطمة، وقد لا يأتي هذا الزمان أبدًا.
فاطمة الحاج إصدارٌ واحد، نسخةٌ لن تتكرر.
0 التعليقات:
أضف تعليقك