 
            نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
ثم إن حياة عبدالعزيز محمد داود، وسيرته، لهي مخطوطة لذلك الزمان، تفصح عن الناس، وترف الحياة الثقافية والفنية. كان عبدالعزيز هبة، بطاقة صادقة حكت عن ترقي التذوق الجمالي وارتفاع المعارف والحس الرفيع.
تدلف إلى أرشيف تلكم الفترة الخالدة، يثير دهشتك، ويبقيك مأخوذًا وكأنك تحلم، وعبدالعزيز، ذو المقدرة والاقتدار، سلك دروبًا قاسية، وصل إلى عذب الينابيع عند باسقات الشعر التصوفي والغنائي والشعبي، رشف من خمر تلكم الأشعار، ودنان كوثره، ثم شاقه ابن الفارض "سلطان العاشقين" فسجع:
"أنتم فروضي ونفلي
أنتم حديثي وشغلي
يا قبلتي في صلاتي
إذا وقفت أصلي"
كان عبدالعزيز يذوب ذوبًا، الصوت يكاد يجسد، يفسر مفردة بعد أخرى، ينقلك إلى طقس العاشقين. صار من صوته أداة عالية النقاء، وكأنك تجلس أمام ابن الفارض أو "السهروردي" أو "ابن عربي"، وهذا هو مقام العشق والهيام لدى أهل السودان.
عبدالعزيز، ظاهرة، فهل تتكرر الظواهر؟
كان سلطانًا في عشقه الأبدي للناس والحياة، وما الغناء والتراتيل إلا ذريعة لتبليغ هذا الحب الذي أضرم نارًا. غير أن محاسن الأقدار جمعته مع عاشق مدنف، هو سلطان في جنس آخر من الفنون، عاشق للحياة، علي المك، وما أعظم علي المك هذا، إنه "علي" بحق، وما أشبه الصفة بصاحبها.
كان علي المك يقود العربة الصغيرة، لا تحمل سمة رفاهية أو ترف، لا، بل هي تنتسب لمجتمع "الأفنديه" ذلكم العهد، غير أنها حوت كنوزًا من المعارف الثقافية، المجتمعية والفنية، بل والرياضية، وورد في الأثر: "الصيد كل الصيد في جوف الفرا".
ولكم شهدت هذه العربة العتيقة مؤانسات وغناء وأشعار؛ تعبر العربة الصغيرة الجسر العتيق حتى إذا بلغت تلك الدار، أطل ذلكم العملاق، وجه دائم الإشراق، ضحك يجلجل بعفوية بالغة، بحب، ثم يعلو الصوت، وتحايا وعناق بين صديقين حميمين.
هذا هو بيت عبدالعزيز محمد داوود.
هذا هو علي المك.
هو حي "الدناقلة"، ولقد شهد هذا البيت فيضًا من التجريب الغنائي، ولکم أشرقت جلائل الغناء بكل أجناسها من هذه الدار.
كان التجوال في طرقات "البقعة" أمرًا أثيرًا لدى الصديقين، كانا يغشيان الأسواق الشعبية، المقاهي ودار الرياضة، ومناكفاتها، وعلي المك "المريخابي" العتيد يجلس مع صديقه في المدرج الشعبي.
هنا تكمن الروح التي تلتقط، تسجل، تتلمس أحاسيس الناس "ملح الأرض"، مشهد في جوهره مؤشر لما يلزم من منتج فني أصيل يسعد الناس.
أوردت توصيفًا، أو نقشًا على جدار الذاكرة لطقوس الحياة وشؤونها، وتأثيرها على السيرة الفنية لعبدالعزيز، بل على سيرة كل متلقٍ حصيف. ولعبدالعزيز مقامات وصنوف غنائية يصعب الإحاطة بها، غير أننا نستهل بما أسرف فيه من تجليات عن "الذكرى والتذكر":
"أو تذكرين صغيرتي،
أو ربما لا تذكرين
الخمسة الأعوام قد مرت
وما زال الحنين"
عوض حسن أحمد، شاعر رومانسي، مطبوع، مقاطع شعرية تضج بأوجاع، مشفوعة بأشواق وأحلام، تفضي إلى أيراق، وسهر، وتسهيد، وحنين صامد لتباريح أعوام خمسة.
هي تجربة ذاتية لشاعرنا، ملؤها أسئلة قوامها بعض شك، كان يأمل أن يكون يقين حب؛ ثم يستعرض شاعرنا، يقرأ، مستغرقًا، يبحث بين سطور خطتها أنامل عن تهيجه الذكرى، تقفز الصورة الحبيبة أمام ناظريه، الأنسام تعبث بتلك الخصلات فوق الجبين القنديل:
"ما زلت أذكر خصلة عربيدة فوق الجبين"
ثم عطر وطيوب وياسمين، ثم منديل نقش عليه رسم لا يبرح الذاكرة أبدًا.
الأغنية موال شاهد، توثيق لحياة تلك الأيام الزاهية، وإشارات للحب والاصطفاء، ورسائل، ومناديل، وعتاب رقيق.
هي تجربة شاعر، غير أننا نسقطها على ذواتنا بكل فحواها.
تسمع اللحن، خفيف الوقع والإيقاع، كأنك تخطر في مهرجان "زفة" سريعة الخطو، تعبر بك، ترتقي إلى ذروة الامتاع العاطفي، فترى روحك، قلبك، كلك، تحت سعير ذكرى وتذكر، وأنت برفقة عوض حسن أحمد وعبدالعزيز.
فـ"هل أنت معي؟"
0 التعليقات:
أضف تعليقك