الجمعة 31/أكتوبر/2025

الدم في غزة… والغضب في أمستردام!!

الدم في غزة… والغضب في أمستردام!!

 

الطاهر يونس

تحوّلٌ صامت في قلب أوروبا يُعيد رسم علاقة هولندا بـ “ابنها المدلل” إسرائيل،
الدم المسفوك في غزة لا يتوقف عند حدودها، إنه يتدفق غضبًا في شوارع أمستردام، المدينة التي تحمل رمزية ثقيلة في الذاكرة اليهودية، إذ شهدت واحدة من أصعب مآسيهم إبان الحرب العالمية الثانية على يد الألمان.

غير أن أمستردام التي نهضت من رماد الحرب أعادت رسم صورتها بثوبٍ يهوديٍّ خالص، فكل زاويةٍ فيها تكاد تهمس باسمٍ أو ذكرى من تراث تلك الطائفة، ففي الجولات السياحية يتعمد المرشدون إبراز البصمة اليهودية في معمار المدينة، ثم ينسجون على مسامع الزائرين قصصًا عن الصمود والمعاناة التي عاشوها أو عايشوها لآخرين من بني جلدتهم، حتى يخال المرء أن أمستردام مدينةٌ نُسجت من خيوط النجمة الزرقاء وحدها، ومن قصصها ومآسيها الحقيقية أو المفلترة عبر شاشات العرض.

كان صباحًا شتويًا مشمسًا على غير عادة هذا البلد الرمادي حين خرجت لشراء سيارة عبر إعلانٍ من أحد المواقع، استقبلني البائع في بيته بـ(إتيكيتٍ) عالٍ وابتسامةٍ رقيقة علت ملامحه الشرق أوسطية البائنة، لم أكن أدري أن هذا اللقاء العابر سيتحول إلى مرآةٍ تصطدم فيها ذاكرتي بالواقع، وخيالي الجامح بخيوط الحقيقة.

فيا للهول وعِظَم المصيبة، كان يهوديًا.

قالها ببساطة وهو يقدم لي وجبة فلافل خفيفة على أنها من طعام أهل الكتاب الذي أحلَّه شرع المسلمين، لكن الكلمة ارتجّت في أعماقي كأنها صدى بعيد من التأريخ، رغم أنه لم يكن في الرجل ما يدعو إلى الريبة، بل كان دمثًا، مهذبًا، كريم المعشر، غير أن شيئًا غامضًا في داخلي انسحب خطوةً إلى الوراء، كأنني أقف وجهًا لوجه أمام إرثٍ ثقيل لا أمام إنسانٍ عادي.

عُطلٌ كامل وشللٌ أصاب كل مستقبلات المشاعر الإنسانية بداخلي، مع انسدادٍ لكل مداخل خدمات التجمُّل، اعتذرت برفقٍ متعللًا بأن السيارة لم تكن كما توقعت، وغادرت مسرعًا كطائرٍ بلا جناحين، سابحًا في فراغٍ وصمتٍ ثقيل.

بعد استفاقةٍ أدركت أن هذا اللقاء لم يكن سوى نافذةٍ صغيرةٍ على تكوين المدينة.
أمستردام التي تبدو أوروبية الهوى هي في الواقع يهوديةُ القلب في كل تفاصيلها العريضة والدقيقة: اقتصادها ومصارفها وأسواقها، وحتى في عشقها لكرة القدم. يكفي أن نذكر “أياكس”، النادي الذي يرفع نجمة داوود شعارًا له، لتدرك كيف تغلغلت الرمزية اليهودية في وجدان المدينة.

وعلى الضفة الأخرى في روتردام يرفع جمهور “فاينورد” الكوفية الفلسطينية نكايةً في خصومهم الأزليين، لتتحول معاركهم الكروية إلى مواجهةٍ بين رمزين: نجمةٍ وكوفية، تاريخٍ وأملٍ جديد. ومن هناك بدأ التحوّل.

تحوّلٌ لم يكن في الرياضة وحدها، بل في عمق المجتمع الهولندي نفسه، إذ غدت صحف روتردام وبلديتها من أكثر الأصوات جرأةً في الدفاع عن القضية الفلسطينية، وصار مشهد الأعلام الفلسطينية في الميادين أمرًا مألوفًا بعد أن كان محرّمًا حتى في الأحلام.

الآن، وفي ذروة هذا التحوّل، خرجت أمستردام من صمتها القديم، تُفرِغ شوارعها لثلث سكانها في مسيرةٍ بلون الدم تهتف لغزة المحاصرة وتدين الإبادة، في مشهدٍ لم يكن أحد ليتخيله قبل أعوامٍ قليلة فقط.

ولعل أكثر ما يزيد الصورة عمقًا أن أكثر من ثلاثين في المئة من شباب أمستردام دون السابعة عشرة هم من المسلمين.

إنها عجلة التأريخ حين تدور ببطء ولكن بثبات، لتُعيد للأماكن ملامحها الجديدة وتتخلى عن ثوبها القديم.

أمستردام بعد هذا اليوم المشهود في تاريخها لم تعد كما كانت، فنبضها لم يعد يهوديًا خالصًا، وفي شرايينها دمٌ عربيٌّ يتدفق، ووجدانٌ إسلاميٌّ يتشكل على مهل، كأنها مدينة تستيقظ من سرديةٍ قديمة على وعيٍ جديد.

وهكذا، وبين غضب غزة وشتاء أمستردام، خسر اليهود في غمرة الثقة بنفوذهم واحدةً من قلاعهم الحصينة.
خسارةٌ لا تبدو عابرة، بل هي نذيرُ تحوّلٍ جذريٍّ في الوعي والسياسة معًا، تحوّلٌ قد يُعيد رسم العلاقة مع إسرائيل (ولو بعد حين)، الابن المدلّل لهولندا، والذي بدأ يفقد دلاله شيئًا فشيئًا.

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار