 
            الطلاق، رغم أنه حل مشروع حين تستحيل العشرة، يظلّ تجربة قاسية تترك آثارًا عميقة لا تُمحى بسهولة. لكنّ الأكثر إيلامًا ليس ما يقع بين الزوجين من خلافات، بل ما يتجرعه الأطفال الذين يجدون أنفسهم فجأة في قلب معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
في كثير من حالات الطلاق، يتحول الانفصال إلى ساحة لتصفية الحسابات، يسعى كل طرف لإثبات أنه كان المظلوم، وأن الآخر هو السبب في خراب البيت. وبينما ينشغل الكبار في تبرير مواقفهم، ينسون أن كلماتهم لا تُوجَّه لبعضهم فقط، بل تقع كالسكاكين على قلوب أطفالهم.
الأب يقول لابنه: «أمك خربت البيت».
والأم ترد: «أبوك ما فكر فينا يوم».
وفي المنتصف يقف الطفل حائرًا، قلبه منقسم إلى نصفين، لا يعرف من يحب ومن يكره، ولا يدري أين الحق وأين الباطل. يعيش حالة من التيه العاطفي والنفسي، تتكسر فيها صور الأمان والحنان التي كانت تمثل له معنى الحياة.
هذا الطفل، الذي كان يحتاج لحضن آمن، يجد نفسه فجأة أمام صراع لا ينتهي. يسمع عن والده أنه سيئ، وعن أمه أنها أنانية، فتتحطم الصورة التي كوَّنها عنهما، وتتحول ذكرياتهما الجميلة إلى جروح مفتوحة.
بعض الأطفال يرفضون رؤية أحد والديهم، وآخرون يكبرون وهم يكرهون أحدهما دون أن يفهموا السبب. وهناك من يحاول التوفيق بين الطرفين فيتحمل فوق طاقته، ويعيش في دور الوسيط الذي يفقده طفولته وبراءته.
والأخطر من ذلك أن هؤلاء الأطفال يكبرون وهم يحملون وجعًا غير مفهوم. يصبحون أشخاصًا يخافون الارتباط، يشكّون في الناس، أو يعيدون إنتاج التجربة نفسها حين يتزوجون، لأنهم تعلّموا منذ الصغر أن الحب مصحوب دائمًا بالصراع والفقد.
أذكر أن طفلًا قال ذات مرة لأبيه:
“بابا، ماما قالت إنك ما بتحبنا.”
فرد الأب بعصبية:
“أمك بتكدب عليك، هي سبب كل المصايب.”
ظل الطفل بعدها صامتًا، لكن عيونه كانت تتكلم كثيرًا. كانت نظراته مزيجًا من الحيرة والخذلان، كأن إحساس الأمان قد انكسر داخله إلى الأبد.
تلك الكلمة التي تُقال في لحظة غضب تظل محفورة في ذاكرته مدى الحياة.
فهو قد ينسى تفاصيل كثيرة، لكنه لا ينسى أنه سمع من أحد والديه كلامًا يهدم صورته عن الآخر.
ومهما حاول الزمن إصلاح ما تهدّم، تبقى الندبة في الروح لا تزول.
يا آباء ويا أمهات…
انفصالكم لا يعني أن تتحولوا إلى خصمين أمام أبنائكم.
الطفل لا يحتاج أن يعرف من المخطئ ومن المظلوم، بل يحتاج أن يسمع منكما معًا أنكما تحبانه، وأنه ليس سبب الانفصال.
احموا أبناءكم من وجعكم، ولا تجعلوهم وقودًا لحرب لا تعنيهم.
افترقوا كزوجين، لكن ابقوا والدين حقيقيين،
احفظوا لكل منكما صورته الطيبة في عين الطفل، حتى لو كان الآخر مخطئًا.
دَعوه يكتشف الحقيقة بعقله عندما يكبر، لا بخوفه وهو صغير.
فالطفل الذي يحتفظ بصورة طيبة عن والديه، يعيش سلامًا داخليًا مدى الحياة،
أما الذي تكسّرت أمامه صورتهما، فيقضي عمره يحاول ترميم ما انكسر… وغالبًا لا ينجح.
في النهاية، قد ينتهي الحب بين الزوجين، لكن يمكن أن يبقى بينهما الرحمة،
رحمة تحفظ إنسانًا صغيرًا اسمه الابن…
هو الضحية الحقيقية إن أنتم نسيتموه.
0 التعليقات:
أضف تعليقك