الجمعة 31/أكتوبر/2025

الطهو على أوتار حزينة

الطهو على أوتار حزينة


الزبير نايل
في مدينة يلفها الحصار وتنهشها الحرب، وحيث لا يُسمع سوى صدى القذائف وصرير الجوع، جلست أم تتأمل صغارها بقلق وحزن. عيونهم الغائرة تسأل بلا كلام: متى سنأكل؟ لكنها لم تجد في بيتها المتهالك سوى صمت بارد. لا غاز لديها، ولا حزمة حطب، ولا حتى بصيص أمل...
تجولت بعينيها المرهقتين في الغرفة، علّها تظفر بشيء يمدها بحياة، حتى وقعت نظراتها على آلة عود في زاوية مظلمة. وقفت في مكانها مذهولة، فذلك العود لم يكن مجرد آلة، بل ذاكرة كاملة. كم شد زوجها الراحل أوتاره في ليالي الصفاء، وكم امتلأت الدار أنسًا وضحكات حين كانت أنغامه تنسج للبيت أجنحة فرح. تذكرت صغارها يوم كانوا يركضون بين الغرف على إيقاع اللحن، وتذكرت نفسها وهي تبتسم...
لكن الجوع لا يرحم، والحصار لا يمنح أحدًا رفاهية التذكر. اقتربت بخطوات مترددة، مدت يدها المرتجفة وضمت العود إلى صدرها كأنها تودعه. لحظة صمت ثقيلة مرّت قبل أن تضعه تحت القدر وتشعل فيه النار.
اشتعلت الأوتار أولًا، فأطلقت أنينًا خافتًا سرعان ما ذاب في الهواء، ثم بدأ الخشب يتفتت ويتحوّل إلى لهب. في عينيها لم يكن عودًا يحترق، وإنما سنوات من الذكريات تتبخر، وصوت زوجها ينطفئ بين ألسنة النار. رأت طفولتهم تتناثر كرماد، ووجهه الحنون يتلاشى مع الدخان.
غلى القِدر فوق النار، لكن قلبها هو الذي كان يغلي أكثر. كانت تعلم أن ما تطهوه ليس طعامًا فحسب، بل لحن وداع، فالحرب لم تكتفِ بأخذ زوجها ولا بتجويع أطفالها، بل امتدت أنيابها إلى الأعمق... إلى الذكريات التي كانت تتشبث بها لتبقى حية.
عند فوران القِدر، أدركت أن الحرب وحش لا يكتفي بالدماء، بل يتغذى على كل ما هو إنساني: الضحكات، الأغاني، الذكريات. يحوّل الفرح إلى دخان حائر، والماضي إلى رماد تتقاذفه الرياح.
هكذا، في الفاشر، يُطهى الطعام على أوتار حزينة، وتُستبدل الموسيقى التي كانت تبعث الحياة بنار لدرء الجوع. وهكذا تكتب الحرب فصولها؛ لا تكتفي بسرقة الحاضر، بل تفتك بالماضي أيضًا

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار