 
            
الطاهر يونس
منذ أن خطّ الشعراء السودانيون وجدانهم على أجنحة الطيور، صارت هذه الكائنات المهاجرة أكثر من مجرد زوّار موسميين للسماء، بل رسلًا للحب وأسرار وجد العاشقين في متلازمة الغياب والحضور.
تحوّل الطير المهاجر عند صلاح أحمد إبراهيم في أغنيته التي شدى بها وردي (الطير المهاجر) إلى قافلة أمل يطوي المسافات في موسم الخريف، وساعي بريد العشاق والحالمين ليُبلّغ الحبيبة أن قلبًا هناك منزوي في ركن قصيّ على المحيط، حيث لا كوابح ولا مصدّات للخيال، ينسج حبًا شفيفًا لمن تنسج منديل حرير على ضفاف النيل.
وفي مناجاة الحلنقي تتناثر عصافير الخريف مع الغروب، فتثير في القلب رعشة الحنين، وتذكّر بأن الشوق أيضًا يهاجر ويعود مع المواسم. الطيور عنده مرايا للروح تحمل على أجنحتها إحساسًا جميلاً يليق بالوجد.
أمّا إسماعيل حسن فقد جعل الطير حمّالًا لسلامات وورود، يعلو فوق الغمام، ويتحوّل إلى قلب مرسل على جناحين ليصل إلى الحبيب، يوصيه ويُشدّد ألّا ينسى الكلام، يحكي عن الشوق الصامت، وعن العيون التي تضيء كالبدور.
ولكن هذا الطير الذي ظلّ في المخيلة السودانية رسول الحُب، لم يسلم في واقع الحرب من عسف الجهل والعنف؛ فالمشهد المصوَّر لطائر بريء طاله بطش قوات الجنجويد بمظنّة التجسس لصالح (الفيلول)، كان أكبر هزيمة للعلم والمعرفة. لكائن وديع موصول بجهاز تتبّع لأحد مراكز البحث العلمي، الباحث في سلوك الهجرة (موسمية الطيران)، أنماط تحرّكه، وصلاته بالمناخ والتوازن البيئي. فانكسرت الأجنحة أمام الرصاص، وصار رسول العشق ضحيةً لوهم الخوف، كأنما أرادت البنادق أن تُكمم حتى الطيور عن الغناء والتحليق.
هنا تتبدّى المفارقة: بين طائر الشعر الذي يعبر الفيافي ليحمل سلام العشاق، وطائر العلم الذي يُفترض أن يقود الإنسانية إلى معرفة أعمق بالطبيعة، ليصبح ضحية التوحّش والارتياب.
يظل صوت الطيور في الأغنيات السودانية أقوى من رصاص الجنجويد، حاضرًا في ذاكرة الناس كرمز للجمال والحرية، يرفرف فوق الخراب، يُعلن أن رمز الحب مهما جُرح يرفرف بأجنحة عصيّة على الانكسار.
وسيظل موسم الخريف شاهدًا على عودة الطيور، تحمل معها رسائل المطر ووشوشات الريح، وتذكّر السودانيين أن الوجدان أعمق من الفراغ، وأن أجنحة الحب كالطيور المهاجرة تعرف دائمًا طريق العودة.
0 التعليقات:
أضف تعليقك