 
            نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
ولشرق النيل دوائر مضيئات، بلدات صغيرة، غير أنها مسكونة بأطياف من الإبداع الأصيل، هي المورد، الينابيع، هي حدائق الغناء، المزرعة الخلفية، هي سقيا الروح والقلب.
تأمل معي "الدبيبة"، "أم ضوا بان"، "أبو قرون"، "العيلفون"، ثم منظومة قرى "العسيلات"، كلها، كلها مشاعل، شعاليل إبداع، لا استثناء.
هنا لكل جنس من الغناء شرفة ورواق، وإنك لتحظى – إن أذن ظرف زمانك – يشجيك الجاغريو، أو خلف الله حمد، أو تسمع ترانيم "أمحمد" ود الرضي، أو شدو سيد خليفة، وهو يسجع سجع الحمام، وصوته الصبي يعبر بك، يضعك بين صبابة وصبابة؛ وفي هدأة الليل، في صحوه، في صفائه تتفتح أزاهير الغناء، ولكم ترق الأحلام، تومض أمنيات الروح "في سكون الليل".
ولنا عود إلى الليل وسكونه وأجوائه المعمورة بالوجدانيات، وما فيه من بث لما أخفته الأضالع، "الليل نهار العاشقين"، "نامت عيون الليل"، تغنى بها حسن سليمان "الهاوي".
هكذا نحن، تجيش قلوبنا بالحب ولوعته، نلوذ بالليل ننشر ما مس أرواحنا من تبريح، كل أغانينا، كل ألوان الإبداع الغنائي، ترى الليل فيها مسرحًا وإطارًا، هو مبتدأ الغناء، استهلاله و"الليل... الليل يا جمال الليل".
الشعر العربي، قديمه وحاضره، هو شعر غنائي منذ أوقات امرئ القيس وحتى زماننا هذا؛ الغناء هو مبعث الشعر، الليل فضاؤه، ساحته التي تخطر فيها مواكب الأشعار والحب:
"يا ليل الصب متى غده
أيقظت الساعة موعده؟"
نص دونه الشاعر "القيرواني" ذات عهد بعيد، وأحمد بن الحسين كان يبكي خواء لياليه و"خولة" بعيد مزارها:
"ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال، وليل العاشقين طويل"
هكذا هي روح الغناء الذي ننتمي إليه، وهل يخون الغصن جذره؟!
وللزمان والمكان حضور في أغنيات "العميد"، فيها ذكر مرسل للأيام والليالي: "أيام زمان"، "أيام وليالي"، "ليالي الريد"، "سهران يا ليل"، "غابت نجوم الليل"، وفي أغنيته الطروبة "يا ناسينا" لواعج بث، مناجاة، ورجاءات وتمنٍ أن تعود تلكم الليالي، تعود أوقات الألفة والمجالس الحميمة.
"في سكون الليل"، لحن شجي مترع بآيات من جمال التراكيب، كتبها مهدي الأمين، وهو شاعر مقل في هذا الباب، وكم للمقلين من روائع، يصمتون دهرًا ثم يتدفق رحيق الأشعار سلسالًا كوثريًا عذبًا.
ليل، وسكون، وصمت، ومعانٍ ومفردات لطيفات، وحيرة تعتريك وأنت تسمع النص وما فيه من رمز، إضمار وبوح صريح:
"ها هي الأضواء أَغْفَتْ
والدجى أصغى إلينا
والمُنى في القلب رَفَّتْ
واستقرت في يدينا"
جمال المفردة وإيناعها، يرينا مشهد لقاء حبيبين، الأضواء تغفو، الدجى يصغي:
"والمُنى في القلب رَفَّتْ
واستقرت في يدينا"
يسترسل الشاعر:
"ثم عدنا وافترقنا
كلنا يمشي وحيدًا
باكيًا قلبًا وجفنًا
خائفًا ألا يعودا"
ختام زاخر بأسى، ولا نعفي أنفسنا من النظر إليه في إطار الرمزية، فمن هو الحبيب؟ هل هو الوطن؟
وقد يضيء تحديد تاريخ هذا النص الرومانسي الكلاسيكي مكنون رسالة الشاعر، غير أننا لا نكاد نجزم يقينًا بظرف الأغنية، ربما كُتبت أيام أجواء الاستقلال، إن صح هذا فإن رمزية الأغنية تبدو حقيقة.
كان أبو بكر سالم بلفقيه يملأ فضاء الجزيرة العربية تطريبًا، صوته القوي الممدود جسرًا من لوعة وتوق وشكوى، كان يغني "في سكون الليل"...
"في سكون الليل في ضو القمر
كم قضيناها لليل للسحر
وحدنا نسهر وخلق الله نيام"
أغنية رومانسية سهلة الكلمات، غير أنها مفعمة، رشيقة، تحكي مشهد لقاء كحال شاعرنا مهدي الأمين، غير أن مهدي الأمين كان مسهبًا متنقلًا بين حالات وأمزجة متباينة، ثم إن "العميد" صمم لحنًا بديعًا أوفى قيمة النص الجمالية.
تحدثنا على عجل عن المكان، الزمان "ساعات، أيام وليالٍ"، مسسناه مس الوبر، ثم إننا نعود لأحمد المصطفى في أمكنة نائية قصية، الشمال الإفريقي، كفرة، معسكرات الجنود السودانيين أيام الحرب العالمية الثانية، والغناء في ليل الصحراء الطويل، الحلفاء يتقاتلون على أرض غير أرضهم، أبناء المستعمرات تحصدهم آلة الحرب بين معسكري "مونتغمري" و"روميل"، ووعود كذوبة بالاستقلال جزاءً لتضحيات لا تُقدَّر.
هذا الاضطراب، الحرب الضروس، أتاحت بروز منتج غنائي تراثي عظيم.
تلتقيك مع "العميد"، ود الرضي، الجاغريو، و"ال كان داكا" فهل... هل أنت معي؟
0 التعليقات:
أضف تعليقك