الجمعة 31/أكتوبر/2025

اليوم الذي استعدت فيه سمع أبي

اليوم الذي استعدت فيه سمع أبي
 
******
الزبير نايل
كثيرا ما تدفعني الرغبة في الهروب من ضجيج الحياة إلى الأسواق الشعبية القديمة التي تشعرك بأن الزمن هناك يسير على مهل.. فيها أجد ما يعدل مزاجي الذي تعكره تدفقات الأخبار ، واتنسم هواءً من الماضي ينعش قلبي ويعيد إلي بساطة تلك الأيام.
ولأن هذه الأماكن تشبه الأوطان الصغيرة، أتنقل بين أزقتها ومحالها، أمعن النظر في وجوه الباعة وأصغي إلى مفاصلاتهم اللطيفة..
اليوم ساقني الحنين إلى سوق "واقف" أحد أقدم وأشهر أسواق الدوحة وسجلها المفتوح على ذاكراتها.. فيه تتجاور الأصالة والحداثة في تناغم محبب.. مبان تقليدية وأزقة تفوح منها رائحة التوابل والبخور وبضائع مرصوصة على رفوف خشبية كأنها تحكي تاريخا ضاربا في القدم. وهناك في الساحات أسراب حمام تحلق على مهل وتلتقط رزقها من أكف المتسوقين وهديلها يملأ المكان بأنغام السلام.
أثناء تجوالي.. استوقفني محل صغير.. دخلت بدافع الفضول فإذا بي أفاجأ بأرفف خشبية مزدحمة بمقتنيات قديمة، لكن شيئا واحدا شد بصري وأيقظ عندي ذكريات رابضة في وجداني..
راديو ناشونال باناسونيك بغلافه الجلدي البني.. امتدت يدي إليه وكأنها تمتد إلى ماض بعيد.
أمسكت به وجلست في زاوية المحل.. قلبته برفق يشبه لمسة على كتف صديق باعدت بيننا السنين.
ثم أدرت المؤشر فإذا بي أسمع صدى الزمن يعود حيا:
دقات ساعة "هنا أم درمان" وشعار النشرة.. وصوت المقرئ الشيخ صديق أحمد حمدون،
ثم عمر الجزلي في "أوتار الليل" والرشيد بدوي عبيد يلهب مشاعر عشاق الهلال والمريخ،
وصوت “ود البصير” ورفاقه في حكاياتهم المرحة.
في تلك اللحظة، لم أكن في سوق واقف…كنت في بيتنا القديم، إلى جوار أبي على قبره شآبيب الرحمة أتابع معه وأتذوق دفء الجلسة، وطمأنينة ذاك الزمان ..
سألت البائع عن سعر هذا الراديو.. قال "مائة وخمسون ريالا".. ودون مفاصلة دفعت المبلغ وسط دهشته..
خرجت من السوق أشعر بنشوة .. كنت أسير بخفة وكأنني استعدت جزءا من ذاتي.. وهتفت من داخلي :
اليوم استعدت "سمع أبي"

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار