 
            
عصام الخواض
في أعقاب كل حربٍ لا يكون التحدي الأكبر هو إعادة إعمار الحجر، بل إعادة إعمار الإنسان، ذلك الكائن الذي تكسّرت روحه وتشوّهت ذاكرته وتنازع فيه الخوف والأمل. فالحروب مهما كانت دوافعها تترك وراءها فراغًا قيميًا وإنسانيًا لا تُرمَّمه الجدران ولا تُعالجه المساعدات، ومن هنا يصبح بناء الإنسان جوهر أي نهضة حقيقية بعد الدمار.
إعادة بناء الإنسان تعني ترميم وعيه وكرامته وإيمانه بجدوى الحياة المشتركة، تبدأ من العدالة، وتمر عبر التصالح، وتنتهي عند الكرامة المعيشية. فالمجتمعات الخارجة من الحرب تحتاج إلى عدالةٍ تُنصف الضحايا دون أن تنتقم، ومصالحةٍ تُداوي الجراح دون أن تُخفيها، وتنميةٍ تُعيد للناس الأمل في الغد، وتعليمٍ يُنشئ جيلًا جديدًا لا يحمل أحقاد الماضي.
هذا التوازن بين العدالة والمغفرة، بين الحقيقة والنسيان، هو ما يجعل الأمم تتعافى حقًا. بعد سقوط نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا لم يختر الناس الانتقام، بل اختاروا الحقيقة. أنشأت الدولة لجنة الحقيقة والمصالحة التي أتاحت لضحايا النظام العنصري أن يرووا ما جرى، وللجناة أن يعترفوا مقابل العفو المشروط. لم يكن ذلك سهلًا، لكنه صنع ذاكرةً وطنيةً جديدة قائمة على الاعتراف لا الإنكار.
منحت تلك التجربة البلاد فرصةً للبدء من جديد دون أن تغرق في دوامة الثأر، لكنها رغم نجاحها الأخلاقي بقيت الفوارق الاقتصادية والاجتماعية قائمة، فعلمتنا التجربة أن الاعتراف بالماضي شرطٌ ضروري لكنه ليس كافيًا ما لم تُصحَّح المظالم في الواقع.
أما رواندا فقد نهضت من رماد الإبادة الجماعية عام 1994 حين سال الدم حتى الغرق، فقُتل نحو مليون إنسان، لكنها اليوم من أكثر دول أفريقيا استقرارًا. اختارت رواندا مسارًا فريدًا في العدالة والمصالحة عبر محاكم “غاتشاكا” الشعبية، حيث وقف الجناة أمام جيرانهم ليعترفوا ويطلبوا الصفح، ثم اتجهت الدولة نحو إعادة بناء الإنسان والمؤسسات معًا، فأعادت صياغة التعليم على قيم التسامح والمواطنة، ونفّذت برامج للرعاية النفسية، وفتحت فرص العمل في الريف، واستثمرت في الصحة والتعليم وتمكين المرأة.
خلال عقدين تحولت رواندا من مقبرةٍ جماعية إلى ورشة بناءٍ جماعية، ورغم الانتقادات حول القبضة السياسية إلا أنها قدّمت للعالم نموذجًا في كيف يمكن للأمم أن تغسل جراحها بالعمل لا بالبكاء.
ومن بين تجارب الدول الخارجة من رماد الحرب يمكن استخلاص مبادئ أساسية: العدالة ليست انتقامًا بل تطهيرًا، والمصالحة لا تُفرض من فوق بل تُزرع من القاعدة، والاقتصاد ركيزة السلام، والتعليم حصن الوعي الجديد، والصحة النفسية جزء من الأمن الوطني، والحكم الرشيد ضامن للسلام، والذاكرة الوطنية ضرورة حتى لا يُعاد الخطأ باسم النسيان.
بناء الإنسان بعد الحرب هو فنّ إعادة المعنى إلى الحياة، أن تُعلّم الضحية كيف تثق من جديد، وأن تُعيد للمجتمع قدرته على الحلم. فالحروب لا تُنهيها البنادق، بل ينهيها التعليم والوعي والعدالة والعمل. لقد نجت جنوب أفريقيا بالاعتراف، ونهضت رواندا بالانضباط، وستنهض كل أمةٍ إذا آمنت بأن بناء الإنسان هو أعظم مشروع وطني بعد الدمار.
0 التعليقات:
أضف تعليقك