الجمعة 31/أكتوبر/2025
بين يدي الحردلو

نبض الكلمة

رندة المعتصم أوشي

 

نستمع للإبداع الفني السوداني في جميع أجناسه (أماديح، غناء، تراث، ضروب إيقاعية)، يغمرنا إحساس ساطع عميق ونشوة تضيء الروح، غير أننا قد لا ننتبه، لا نلتفت إلى مصادر هذا التكوين الإبداعي الجمالي المهيب٠

هذه دعوة للباحثين، ثم إسهام خجول مستخلص، على عجل٠
من ينظر إلى التكوين الثقافي الفني السوداني، يدرك أنه لا يستطيع إدراكه، والإحاطة به، وفي كل بلدة، كل قرية، كل مدينة، تحت ظل نخلة، عند كل مورد ماء، عند نشوغ، ورحيل تتفتق إبداعات، تجليات، ثم بوح منغم، مسجوع، مغنّى، يحلق في فضاء الروح، يطير فراشات ملونة٠

الإبداع كم متناثر، منثور على مدى مكاني عريض، وقد يكون في اختيار مركز، قطب، منصة جذب مغناطيسي، قد يبدو أكثر كياسة٠ فلتكن سياحتنا الأولى في ذياك المكان الذي فاح منه عطر الإبداع الغنائي التراثي، الحديث، أشرقت فيه طلائع عبقريات الغناء، المديح، الإنشاد وفن "المسادير" و"الدوبيت" و"الرميات" وفي كل طرب يسكر الروح٠

نبتدر هذه الدوائر بمدينة "رفاعة" فهي قطب، دائرة إبداع رصين، ولنا في هذا الاختيار أسبابنا الظاهرة، فالمدينة محط، مورد لا ينضب، سهل "البطانة"، هو موئل للإبداع، كانت رفاعة حاضرة، "موردة" عمرت بالدوبيت و"النم" وفصيح الشعر أيضاً٠

كان الحردلو "ابن رفاعة" متنازع القلب بين السهل البديع المخضوضر وذكريات خلت، لا تبرح الذاكرة في الدار، وشيخ العرب يأمر فيطاع٠ وفي رفاعة يقام في ساحة السوق "عكاظ" صغير، نهار يومي الخميس والاثنين، شيخ العرب، وشعراء البطانة يتحلقون حول مجلسه ويبدأ مهرجان الشعر، وقد يصحبه رقص بالسيف "رقصة الحرب" و"قدلة" الصقر، يا له من مشهد! الحردلو، وود عوض الكريم وسائر رهط الشعراء ذلكم المكان البيهج سقوا أهل السودان أكواباً مترعة بأنبق الأشعار التي تمس الروح٠

"الزول السمح فات الكبار والقدرو
كان شافوهو ناس "عبداللاه" كانو بعذرو
السبب الخلاني العيد هناك أحضرو
درديق الشبيك البنتو في صدرو"

ثم:
"رفاعة الربا قافاها البليب طربان"

ثم:
"قصبة منصح الوادي المخدر درو
أصبح قلبي تطويهو كل ساعة تفرو"

هذا المقطع قرأه المبدع الكبير عمر الطيب الدوش، مسته رعشة واضطراب، مشى حافياً في الشارع مذهولاً، وهو يردد: "والله العربي دا مجنون.. مجنون"٠٠ إنه إحساس الشاعر المبدع في كمال صدقه٠

هذا الشعر، الغناء المفعم، لكم سعدت به حسناء تثنت، غصن بان في أمسية عرس بهيج٠٠ كم طربنا ونحن نتغنى به، نسمعه، لكم رأينا فيه إفصاحاً لأحاسيسنا، وجداننا: "والقلب ترميه مراميه"٠

لقد غصت منصات الإعلام وشرايينه بهذا المنتج الجمالي الرفيع، تغنت به كل الأجيال، عُقدت ندوات، لقاءات، كُتبت بحوث، ظلت دنان ذاك الإبداع مترعة، لا تجف، أباريق وأكواب نُهلت، كانت سقيا من كوثر حلال٠

رواد كثر مبدعون كانت أصولهم من هذا الحيز الجغرافي الغني البديع٠ الجغرافيا لا تحذف التكوين الوجداني العاطفي، يبقى أثره قوياً، حسن عطية "أبو علي" ينتسب لقرية "عد الغباش" وهي ضاحية، ظهر لمدينة رفاعة، ينتمي لقبيلة الشكرية، فخذ "العيشاب"، الإشارة هنا للتوثيق فقط، ليس لتنويه قبلي٠

ولعلك وأنت تذوب رقة و"أبو علي" يترنم، يشجيك، علك ما تفطنت للأداء الإنشادي الذي يهز قلبك هزاً عنيفاً، ما أدركت أثر النسق الأدائي الفني لأهل البطانة الذي خزنته ذاكرة المطرب العظيم٠٠ قد تحس هذا وأنت تصغي بوله لـ"رملتنا بيضا" أو "حبيبي ناوي الرحيل" أو أغنية "الخرطوم" أو "فيردلونا"٠

إذا نظر الباحثون بعدل لتراث البطانة الشعري، إن أنصفوا لتبين لهم سمو هذا النمط، بل الاتجاه الشعري المجيد، وهو تجديد بأصالة للشعر العربي، وأشعار الحردلو في غرض الطبيعة ووصفها، لا يدانيه إلا أشعار أبي ذؤيب الهذلي المخضرم، وقد لا يسع الوقت للإسهاب٠

ولنا عود لهذه الدائرة الضوئية البراقة، فهل تنتظرون؟

 

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار