الجمعة 31/أكتوبر/2025

حنتوب… روضة الذاكرة وأفياء الحنين

حنتوب… روضة الذاكرة وأفياء الحنين

 

الطاهر يونس

أرسل لي الصديق ياسر عائس، وكعادته في استثارة ونبش كوامن التحبير، مقطع فيديو فتح فيه أبواب القلب على كل نواصي الحنين والجمال، ظهرت فيه مدرستي حنتوب ببهائها الباذخ وجمالها الفاتن، وموقعها المرسوم على لوحة الضفاف الشرقية للنيل الأزرق مقابلة لمدينة الإبداع والجمال مدني السني، وبذلك الانضباط الإنجليزي المرسوم الذي طبع كل تفاصيلها. وما إن صدح في الخلفية صوت الرائع عبد الدافع عثمان الرخيم بأغنيته الخالدة حنتوب الجميلة حتى وجدت نفسي غارقاً في بحر من الذكريات تتقاذفني أمواجه بين الفرح والدموع.

وللحقيقة والتاريخ، فحنتوب أكثر من مدرسة، إذ كانت عالماً كاملاً ومتكاملاً في كل شيء. في داخلياتها كانت المنافسات تملأ الأجواء: مسرحيات ذات مضامين وبأداء مبهر، وفواصل شعرية وأدبية تحدّثت عن نبوغ باكر، ومباريات رياضية في كل المناشط تُلهب الحماس، وتحديات تزرع في النفوس العزيمة والاعتزاز. ومن نوافل القول، المنافسات العلمية لطلاب أصلاً يمثلون صفوة الصفوة وزبدة التميز. ببساطة، هناك تعلمنا أن الحياة يمكن أن تكون مزيجاً من الانضباط والفرح، من الجدية والإبداع، من الحلم والواقع.

ومن الذكريات التي لا تُنسى (يوم الخريج)، الذي يمثل عيداً استثنائياً يعود فيه أبناء حنتوب من كل الجامعات، وجوههم مشرقة بخطوات المستقبل، فيغمرون المكان بفرح لا يُشبه أي فرح. في ذلك اليوم كنا نوقن أن حنتوب ليست محطة عابرة، بل جذر ممتد في الأرض يغذي الأجيال ويمنحها هوية لا تموت.

لم تقتصر عظمة حنتوب على الطلاب والأساتذة، فقد صنعت حتى من بسطاء عُمّالها رموزاً ونجوماً تلألأت في سماء الفن السوداني. أليس من بين جنباتها خرج حميد أبو عشر (النجار) الذي حمل بين ضلوعه شاعراً فذاً، رفد المكتبة الفنية السودانية بروائع لا تُنسى؟ وعندما فُرِض عليه مغادرتها منقولاً إلى مدرسة الحصاحيصا لم يجد سوى الشعر أنيساً وسلوى، ليودّعها في أجمل ما يكون الوداع:

“وداعاً روضتي الغناء… وداعاً معبدي القدسي.”

ليصل إلى ذروة الوجد ورفق الانكسار:

حبيب الروح لا أقوى على حمل الهوى وحدي.

ومن بين أبنائها، يظل اسم الرئيس جعفر محمد نميري شاهداً على أثرها، وقد سمعته في تسجيل من أرشيف التلفزيون مؤخراً يتحدث لمحطة تلفزيون إنجليزية بلغة واضحة ورصينة بقيّة مما علّمته حنتوب. بينما برز في فضاء الفكر والسياسة الدكتور حسن الترابي ومحمد إبراهيم نقد، مفكران وصوتان بارزان من أطياف مختلفة، جمعتهما حنتوب في مقاعدها لتبرز مدرسة لا تصنع رؤية واحدة، بل تُعطي الوطن تنوعاً أيديولوجياً وفكرياً رصيناً.

إنها حنتوب أيها السادة، التي خرّجت المفكرين والعباقرة من كل الأطياف: من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مناضلون ومصلحون، سياسيون وأدباء، قادة ومفكرون… جميعهم يحملون من روحها نصيباً، ويثبتون أن رسالتها هي احتضان التعدد وإشاعة الفكر في كل الأجيال.

حنتوب… ذاكرة المجد ومعبد الحنين، كم أثقلتِ القلب بحنينٍ لا يخبو. ستبقين دوماً رمزاً خالداً نلوذ به كلما ضاق الأفق، وتردد في فضاء أرواحنا صدى الأغنية: حنتوب الجميلة ولا أدري من هو العبقري الذي طاوعته نفسه ليهدم هذا المعبد ويشيع القبح وسط عالم متمدد على سفوح الجمال؟!

 

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار