 
            
الزبير نايل
في محطة القطارات بالقاهرة، وقف الأب وفي عينيه دموع حائرة…جاء يودّع ابنته التي شاركته رحلة اللجوء الموحشة.. عبرت معه الحدود والليل والمخاوف لكنها اليوم قررت العودة إلى الخرطوم التي غادرتها مضطرة تحت وطأة الحرب.. في حقيبتها خليطٌ من ذكريات، بعضها يبعث على الفرح وبعضها يثقل القلب بالأسى.
احتضنها طويلا، ثم همس في أذنها بصوت متهدج: لا تقلقي بنيتي فالطريق إلى الخرطوم ليس طويلا على من تهفو روحه إليها… بلغي سلامي لشوارع المدينة التي حفظت خطانا ولدارنا التي خبأت ذكرياتنا ولكل شجر وحجر هناك…لقد غبنا بأجسادنا لكن مدينتنا لم تغب عن قلوبنا أبدا.
على مقربة من هذا المشهد، كانت سيدة مصرية تضم صديقتها السودانية بين ذراعيها احتضانا يفيض دفئا..تبكي بصدق تعجز عن وصفه الكلمات.. تبكي من مرارة الوداع بعد أن نسج النيل العظيم بينهما خيوط مودة لا تنقطع وجسور محبة راسخة كضفتيه اللتين لا تفترقان ..
مضت الفتاة نحو القطار وفي قلبها ذكريات اللجوء التي صاغت منها امرأة صلبة العود، والأب الذي خنقته العبرة مسح بقايا دموع كادت تجف من قهر السنين .. أما السيدة المصرية فقد كانت تلوح بيد وتضع الأخرى على قلبها وعيناها تلاحقان القطار من خلف نوافذه تحاولان أن تختزنا آخر صورة لصديقة نبتت بينهما مودة عميقة ..
تحرك القطار وتعانقت النظرات الأخيرة كأنها عهد محبة..لحظتها كان كل شيء يفيض إنسانية.. الدموع والأنفاس والعيون المعلقة.
مشهد يجسد فصلا من حكايات اللجوء والمنافي يحتاج إلى أقلام صادقة تمسح عن الوجوه المتعبة غبار الأيام وتترجم ما عجزت عنه الدموع من حكايات الألم والأمل.
لحظات الفراق لا تقاس ببعد المسافات فقط ولكن بما تتركه في القلب من وجع صامت وجراح غائرة ..
0 التعليقات:
أضف تعليقك