الجمعة 31/أكتوبر/2025

رحل محمد طاهر إيلا الرجل الذي جاء من البحر

رحل محمد طاهر إيلا الرجل الذي جاء من البحر

كلمة مباشرة

عصام الخواض

 

وُلد محمد طاهر إيلا في شرق البلاد، بين رمال جبيت ونخيل سنكات وملح البحر الأحمر. هناك تفتّحت عيناه على قسوة الصحراء وكرم البحر، فصاغته الأيام رجلًا صلبًا مثل جبال الشرق، ناعم القلب كأمواجه، يعرف أن الحياة تُبنى بالكدّ لا بالشعارات. منذ بداياته، كان مؤمنًا أن التنمية ليست أرقامًا في دفاتر، بل نبضًا في عروق الناس، وأن ولاية البحر الأحمر ليست هامشًا من الوطن، بل بوابة مجده.

حين تولى ولاية البحر الأحمر، لم يكن هناك سوى ميناء متعب وطرقاتٍ ترابيةٍ تئنّ من الغبار. لكن إيلا أطلق وعدًا وقال كلمته الشهيرة: "سنجعل من البحر الأحمر درةً في جبين الوطن".
فشقّ الطرق ورصف الشوارع، وأضاء المدينة التي كانت تنام على الظلام، وأنشأ الكورنيشات والسواحل والمتنزهات، وزيّن بورتسودان لتصبح وجهةً لكل سودانيٍ يبحث عن الجمال والأنس بعد طول العناء.

بجهوده، أصبحت بورتسودان مدينة المهرجانات والسياحة الداخلية، مدينة لا تعرف السكون. كانت أيام "مهرجان السياحة والتسوق" تشهد ميلاد السودان الآخر، السودان الذي يفرح، يرقص، ويتنفس هواءً من غير غبار السياسة.
وفي فترةٍ قصيرة غيّر وجه الولاية، فأصبحت نموذجًا للإدارة الفاعلة والتنمية الحقيقية. لم يكن يجلس خلف المكتب، بل كان يقود بنفسه الجرافة والمشروع والعمال، يمرّ على المواقع فجرًا ويمسك بالخرائط كمهندسٍ يقرأ حلمه، لا كمسؤولٍ يوقّع أوراقه. ولهذا أطلق عليه الناس لقب "بلدوزر الإنجازات"، لأنه كان لا يعرف المستحيل ولا يؤمن بالتأجيل.

من البحر إلى الجزيرة... والإنجاز واحد

حين انتقل إلى ولاية الجزيرة، ظنّ البعض أن سحر البحر سيبقى هناك في الشرق، لكن إيلا حمل معه ذات الروح، ذات الإصرار، وذات الشغف بالبناء. فبدأ من الأرض الخصبة، فأعاد إليها رونقها القديم، فتح الطرق، جدّد القرى، وأعاد الأمل للمزارعين الذين أنهكتهم السنين. جعل من مدني مدينةً تنهض من سباتها الطويل، وأنشأ الطرق التي تربط أطراف الجزيرة، وساهم في دعم التعليم والصحة والخدمات، مؤمنًا أن الإنسان هو مشروع الدولة الحقيقي.

كان حادًّا في قراراته لكنه عادل في نواياه، لم يكن يرضى بالكسل ولا بالمجاملات. أراد للموظف أن يكون خادمًا للشعب لا سيدًا عليه. كثيرون أحبوه لأنه كان صادقًا في فعله، جادًا في وعده، واضحًا في قصده.

الوالي الذي جعل من الصحراء مدينة

في كل مدينةٍ مرّ بها ترك أثرًا، وفي كل ولايةٍ حكايةٌ تبدأ بطريقٍ لم يكن موجودًا، أو مستشفى كان مجرد فكرة، أو مدرسةٍ بُنيت على حلم. كان يراهن على أن السودان يمكن أن يكون أجمل، وكان يعمل بصمتٍ كما لو أن العمر لا يتسع لمقدار ما يريد أن يفعل.

كان يُقال عنه: "يعمل بعقل مهندس وقلب وطنيّ".
وهو الذي لم يعرف الكلل، كان يؤمن أن المسؤول الحقيقي لا ينام، لأن تعب الناس لا ينام.

رحل البلدوزر محمد طاهر إيلا.

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار