الجمعة 31/أكتوبر/2025
سِحرُ الأرواح
نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي
 
بلدةٌ صغيرة، تنعم بأمسياتٍ من الصفاء والنقاء وصحوِ الأنسام. لا ريب، فهي تنتمي إلى “شرق الله البارد، سيدو قاعد في ومشتهي”.
ما أجمل الكلمات! تجاوزٌ رفيعٌ لجنس الشعر.
هنا أنعمت أقدار الله بفيضٍ من ينابيع عباقرة الغناء، وهنا بدأ اليافع علي محمد الأمين خطواته الأولى على سُلَّم الحياة، بل على سُلَّم ومقامات الموسيقى.
علي محمد الأمين هو سيد خليفة “أبو السيد”. أراد له أبوه أن يكون شيخًا، فبعثه إلى القاهرة، غير أن الأقدار ساقته إلى عالمٍ آخر؛ عالم الغناء والموسيقى.
عرف الغناء العربي أباطرةً كبارًا كان منشؤهم ساحات المؤسسات الدينية؛ فالشيخ سلامة حجازي كان مؤذنًا يقيم ليالي المولد، ثم سبق عليه الغناء فبرع فيه.
وكان للأزهريين إسهامٌ كبير في أدب الغناء العربي؛ كامل الشناوي مثلًا كان أزهريًّا يلبس العباءة، وكتب أرقَّ أغنيات العتاب والنسيب:
"لا تكذبي، إني رأيتكما معًا
ودعي البكاء، فلقد كرهتُ الأدمعا."
تغنت بها نجاة الصغيرة بصوتها الملائكي الحالم.
كانت الدراسة في معهد الموسيقى ذات أثرٍ بالغ، إذ تسمع موسيقى وأغنياتٍ تُشجيك فتأنس لها وتتعشقها. غير أن المنتج الفني لسيد خليفة كان نهجًا علميًّا تطوّريًا.
تغنّى سيد خليفة بكل أجناس الغناء: بالفصيح والعامي والحقيبة والوطني والتراثي. غناءٌ اتسم بالثراء الموسيقي وغزارة الإنتاج، وكان لماحًا ينتقي أطيب ثمار الكلمات.
تغنّى لـ التجاني يوسف بشير برائعته أنشودة الجن، ولـ حسن عوض أبو العلا:
"شغل القلبَ هواها وهي لا تدري الهوى
كم تمنّيتُ لِقاها وتمنّاني النوى."
ثقافةُ سيد الموسيقية وثراءُ لغته العربية تبدَّيا في حسن الاختيار واستيعاب النص، ثم تصميم لحنٍ أخّاذٍ وموسيقى تُصوّر المعاني، بل تُجسِّدها، فتنادت كل أسباب الجمال.
ثم تغنّى سيد خليفة في مطلع الخمسينيات بنغم سِحر الأرواح، وكان نصًّا شعريًا موغلًا في الجمال، كأنه نداءاتٌ وأصداءٌ لأيامٍ زاهياتٍ خلون. الأغنية هي حلم الصبا، كتب كلماتها عبد المنعم يوسف، وحول ذلك جدلٌ لا يغيّر من قيمتها الجمالية.
إنه نصٌّ بديع أبقى جمهور المستمعين – آنذاك وحتى اليوم – تحت سطوة نشوةٍ وخدرٍ لذيذ. نسمعها فتحلّق بنا موسيقى أكسبها سيد خليفة ثراءً وحِيَلًا فنية، وكان ذلك في مرحلة يفاعته بحذقٍ ودُربة.
"من أنتَ يا حلمَ الصبا؟
من أنتَ يا أملَ الشباب؟
من أنتَ يا مَن رُحتُ أنشدُه
ولكن لا جواب؟
أَرنو لصورتِك الحبيبة
بين أطيافِ الضباب."
قال السر قدور، كرزاي الأدب الغنائي السوداني:
“إن أغنية حلم الصبا هي من أروع الأغنيات العربية نصًّا ولحنًا وأداءً وموسيقى.”
وأنا معه تمامًا، فهل أنت أيضًا؟
ظلَّ سيد خليفة يُشجي أسماعنا، يُسكرنا بخمر دِنانِ حلو الأغنيات، يرتقي بذائقة الجمهور، ويطوف بنا حدائق الغناء وسِحره؛ الغناء العربي الرصين الذي يُعيدُ أيام الرشيد والأمين وتلك الليالي المترفات.
ثم يُلقِم نارَ أشواقِنا أعوادًا من صندلٍ حين تغنّى:
"في ربيع الحب كنا
نتساقى ونُغني
نتناجى ونُناجي الطيرَ
من غُصنٍ إلى غُصن.
ثم ضاع الأمس مني
وانطوت بالقلبِ حسرة."
هكذا أدخلنا إدريس جماع إلى عالمه المملوء بالعذابات، عذابِ الروح وخيباتِ الأمل. رحلنا معه في حلمٍ سماوي، سرينا ثم عدنا…
لقاءٌ ثانٍ مع “أبو السيد”.

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار