الجمعة 31/أكتوبر/2025
طَرَقْ آبْري!
بوح الحبر
د. الحبر عبد الوهاب
 
كان ذلك قبل أشهر من الحرب التي اندلعت بسبب "الديمقراطية"! جلستُ في صالة المغادرة بمطار الخرطوم أنتظرُ قدوم الطائرة التي ستقلَّني إلى الخليج. كنت أتحسّس "القطايع" و"الفلايت" تحت كتفي الأيمن وأعلى ظهري، والتي جدّدتها الإجازة في وطني! الإجازة هي العمل، والعمل هو الإجازة عندي مذ أن كنت تلميذا ثم طالبا بالمدارس والجامعة ثم موظفا. أجيء إلى هذا البلد المسكون بالألم نَضِرا ثم يلسعني حرُّه وبعوضُه، ويُهوِّمُ على وجهي ذبابه، وأصاب بالحمى مرات وبـ "الدبرسة" مرات أخرى، وحينما أعود للغربة والعمل أعود ببقية حمى، ودمامل لسعات البعوض على وجهي، وخشونة في راحتي يديَّ، وفتور ونعاس، وكدمات على جسدي لم تُمحَ رغم السنين، لأنها منقوشة بأحرف من تعب بسبب شقاوة الطفولة، وعملي في الحقل، واعتنائي بعنزاتنا وبقراتنا، و"كَتِّي" المركب من وإلى جزيرة النايرة.
وأنا كذلك، أتحسّسُ آلامي و"فتوري" وذكريات عطلتي فجأة سمعت اسمي يتماوج في صالات المطار، وحينما أصخت السمع علمت ـ دهِشًا ـ أنَّ عليَّ أن أقابل موظف "الخطوط"! "رخيت أضاني" ثانية لأتأكد أكثر،، وتأكدت! كان صوتُ موظفة الاستعلامات يتغنَّج كأنه يطير بين السحاب. كانت تُخرج الحروف "الحلقية" من مخارج "الغُنَّة" والدلع! هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها اسمي بهذا الجرس الحلو الناعم الناعس!
"نفضتُ" التعب وتوجّهتُ إلى ضابط الجوازات وقلت له إنني أنا المنادَى باسمي فسمح لي بالخروج! قلتُ في سري: "اللهم أجعله خيرا"، لكن موظف "الخطوط" قال لي: "عايزك بتاع الأمن داك". نظرت حيثُ أشار فرأيتُ شابا نحيفا يحدِّق فيَّ. لا بد أنه كان في انتظاري! قلت في سرِّي ربما بسبب إحدى المقالات التي كتبتُها عن الفساد الحكومي، وتجاهل الدولة لأسباب مرض السرطان، وتهريب الذهب عبر المطار، وإناث الجِمال عبر الصحراء، ومشاكل العطش والتعليم. قال لي موظف الأمن: "تعال معي"، قلت له: "خير"!
دخلنا بابا في جانب المطار الشمالي، جوار "كِلْيتِه" مباشرة. قال لي: أنت شايل ممنوعات؟ قلت:" أنا؟ أبدا"!
في الخارج، في غرفة مستطيلة، وجدنا ثلاثة موظفين أمام شاشة فحص العفش. كانت شنطتي الصغيرة موقوفة في سير التفتيش كأنها مريض تُجرى له صورة رنين مغناطيسي... كل محتوياتها أمامهم في جهاز الكمبيوتر! قال لي أحدهم: أنت فلان؟ قلت نعم. ثم سحب الشنطة بالسير فخرجت وعليها بعض غبار "تلاقيح" قريتي! غبارٌ يلج البيوت حتى وإن كانت الأبواب والشبابيك مغلقة! شنطة صغيرة، خفيفة، "غبشاء"، مسكينة مثل صاحبها، "قدر ما دعكتها بقطعة قماش لينة ما نضفت"! شنطة شهدت أسفاري وسهري في المطارات وعودتي إلى البلد وفرحة أهلي بي. شنطة لا أحب أن تفارقني أبدا، وأنا إذا أحببت شيئا أكون وفيًّا له، لدرجة أنني ذات غروب حملت عنزتي الجلحاء التي كانت تعاني سكرات الموت في الحقل قرب النهر، حملتها على حمارتنا "الخدره" لتموت في حوش المنزل، معزّزة مكرَّمة!
قال الضابط: "دي شنطتك؟". قلت نعم.
-​هل بداخلها عُملة صعبة؟
-​قروش قصدك؟
-​نعم.
-​لا.
-​ده شنو؟ عاين للجهاز ده؟ هل معك المفتاح؟
-​نعم.
-​افتح الشنطة!
وأنا أفتحها بيد وجِلة (خوفا من أن يكون أحد المجرمين دسَّ عملة صعبة فيها) وقف ثلاثتهم ينتظرون المفاجأة! فتحتُ الشنطة بعد أن أدخلت المفتاح مقلوبا مرتين من "الربكة"! قلَّب أحدهم محتوياتها المتواضعة: بنطلون وقميص وعراقي وسروال طويل وجلابية "خيِّتها برقو ود الشيخ"، وملابس داخلية، و"فول حاجات" وتسالي وعرديب، وكيس (كان سابقا جزءًا من "شوال" سكر)، مربوط بخيط "جون قرنق". سألني الضابط: "الفي الكيس دي شنو؟". قلت:
-​ طرق آبري.
-​شنو؟
-​طرق آبري.
-​قول واحدة واحدة.
-​طرق.. آبري!
-​افتحه.
لحسن الحظ كانت ربطة الخيط "وشَرة" فانحلت سريعا وظهر الآبري بلونه الأحمر العجيب الذي يميل للسواد. دائما يذكرني بلون "دنانين البقر". وفاحت رائحة الآبري بـ "دواه"، والتي تذكرني بـ "بالكوجان" ورمضان في قريتي. تناول الضابط "طرقة" وقلَّبها ثم كسرها رغم لِينها "فاتحتحتت" على الملابس. قال الضابط:
-​معليش. إذن هو آبري وليس عملة.
-​سعادتك، لو عندي عملة صعبة مثل طرق الآبري ده ما بطلع من البلد.
-​معليش.. أغلق الشنطة وحصِّل طيارتك.
أخذت قطعة آبري ومضغتُها حتى "كشّرت" من حموضتها، ثم أغلقت الشنطة بـ "الطبلة السوكرتا".. وغادرتهم متوجهًا إلى صالة المغادرة، وهناك وجدت إخوتي المغتربين يحدّقون في ذكرياتهم، وجوههم راضية حتى ليظن الناظر إليهم أن معهم عملة صعبة مثل طرق الآبري، وما علم أنهم يحترقون لأهلهم وذويهم والوطن!.

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار