 
            كلمة حرة مباشرة
عصام الخواض
عاد عم عبد الرحيم إلى المشرع بعد غيابٍ طويل، فلم يجد أحدًا من “زُملان الشقى”.
الكل باع البيوت والحواشات، ورحل إلى المدينة.
في مكان النخلات ارتفعت غابات من الأسمنت، وحتى المشرع تعطّل، وجفّ النيل الصغير الذي كان يرويهم بالطمأنينة.
كل شيء تغيّر... إلا الفقر.
بقي كما هو، أكثر لزوجة، أكثر التصاقًا بالجلد والذاكرة.
وقف عم عبد الرحيم على حافة الساقية القديمة، تمتم بصوته المبحوح:
"إن كان الفقر يا عبد أشبه بالكفر..."
ثم تنهد وقال:
"يا ريت التمر... يا ريت لو يشيل كل تلاتة أشر...
حكومات تجي وحكومات تمر... والحال هو الحال..."
ورغم القسوة، هناك في أعماق الريف ما زال يعيش مليون عم عبد الرحيم، يسدّون جوعهم بورق التُوَات، ويسترون أجسادهم بالصبر.
لم تعد عورتهم تثير أحدًا، فقد جفّ الثدي وماتت الشهوة، وصار الحلم رفاهية لا يملكها إلا من نجا من الحاجة.
كل الناس هناك أهل...
يتقاسمون اللقمة والوجع والدهشة، ويضحكون كي لا يبكوا.
ومات عم عبد الرحيم هذه المرة من صدمةٍ قلبيةٍ حين سمع أن السكة حديد قد شُلّعت، ولم يعد هناك قطار ينتظره ليموت تحت عجلاته كما كان يحلم.
مات من الفقر... من الإهمال... من الوجع.
ومات معه زمنٌ كامل كان فيه السودان أخضرَ من الحنين.
بعد أعوام، مررتُ بالمشرع، لم أجد غير أطلالٍ وساقيةٍ مكسورة، وطفلٍ صغيرٍ يحمل اسم عبد الرحيم.
سألته عن الجد الذي كان يحرث الأرض وينتظر المطر، فقال:
"جدي؟ قالوا مات زمان... لكن في الحلم لسه بيجي...
بيجي شايل الطورية وبيقول لينا: الموية جاية يا أولاد، الموية جاية..."
عندها أدركت أن عم عبد الرحيم لم يمت، بل صار وجهًا في ذاكرة النيل،
وصوتًا في وجدان الأرض، يذكّرنا بأن الفقر ليس قدرًا، بل نتيجة صمتنا الطويل.
0 التعليقات:
أضف تعليقك