الجمعة 31/أكتوبر/2025

قتل الله التكنولوجيا

قتل الله التكنولوجيا

كلمة حرة مباشرة

عصام الخواض

 

في الماضي، كان الاقتراب من هاتف المنزل محرّماً إلا على الوالدين، وإذا رن الهاتف تعالت أصواتهم من بعيد: "ما في زول يرد". كان الهاتف جهازاً ساحراً مرتبطاً بالأخلاق والحياء، واقتراب البنات منه كان كأنه خروج إلى الشارع بلا غطاء رأس.

في الماضي، كان أقصى ما يشاهده الصغار في التلفزيون هو افتح يا سمسم، والكابتن ماجد، وسندباد، والليث الأبيض. أفضل المسلسلات الرمضانية كانت تبدأ بعبارة "لا إله إلا الله" بعد العصر، وكان برنامج العلم والإيمان يسبق الأذان بقليل، ثم يغلق التلفزيون أبوابه كل ليلة وينام مثلنا.

في عيد الأضحى، كان الأب يأخذنا لنشتري الخروف، فنقضي أسبوعاً كاملاً نحضر له القصب والبرسيم من "سيد القش". كان في كل حي "سيد قش"، وكانت البيوت عامرة بالغنم. لم نعرف لبن البودرة، وكان العيد مناسبة يتقاسم فيها الجميع اللحم في بيوت مشتركة تطبخ فيها النساء معاً، فيأكل كل الحي من كل بيت.

في الماضي، كان الأب عملاقاً حقيقياً؛ نظرته تخرسنا، وضحكته تطلق الأعياد في البيت، وخطواته تكفي لإيقاظنا لصلاة الفجر.

كانت المدرسة على بُعد كيلومترات، قريبة بما يكفي لأن نمشي إليها صباحاً ونعود ظهيرة بلا باصات مكيّفة ولا تحذيرات. كان كل من في "الحلة" أباً أو أماً أو أخاً.

لم نعرف الجراثيم ولا الديتول. لعبنا في التراب ولم نمرض، وإن مرضنا تكفي حبة "كافينول" أو "سلفا". كانت للأم سلطة، وللمعلم سلطة، وللمسطرة الخشبية سلطة تُؤلم لكنها علمتنا جزء عمّ، وجدول الضرب، والخط العربي قبل التاسعة من العمر.

في الماضي، كان ابن الجيران يطرق الباب قائلاً: "أمي بتسلم عليكم وتقول عندكم بصل أو طماطم أو شوية كسرة". الجوار كان أخوّة حقيقية في اللقمة والجدار. أما اليوم، فابن الجيران يبحث عن رقم هاتف بنت الجيران ليحادثها على "الواتساب".

في الماضي، كانت الشوارع بعد العاشرة ليلاً فارغة، والمكان الوحيد المفتوح هو المستشفى أو بيت جار يطلب الفزعة. كان الستر في الوجوه الطيبة الباسمة، وكانت عودة مغترب واحد تكفي لتفرح الحي كله، فيوزع الهدايا ويزرع البسمة في وجوه الأطفال.

كانت أبواب البيوت مشرعة، والزيارات متبادلة، والترحيب يُسمع من بعيد. كنا نتبادل أطباق الطعام والملابس، واليوم نتبادل الشكوك وسوء الظن.

لهذا صار العيد يمر بلا تهانٍ، والموت بلا عزاء، والميلاد بلا فرح، إلا عبر "الواتساب" أو "الفيسبوك".

نعم، إنها التكنولوجيا التي أعمت الأنفس وقتلت الحضارة.
حضارة ألبستنا أرقى الملابس، لكنها جرّدتنا من القيم الإنسانية وأبعدتنا عن أنفسنا.

فتواصلوا بأحاسيسكم وابتساماتكم، واعلموا أن الزيارة والتراحم يطيل العمر ويعمّق الود.

قتل الله التكنولوجيا والهواتف الذكية.. قتل الله الإنترنت.

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار