الجمعة 31/أكتوبر/2025

مشردو الحرب .. من لهم؟

مشردو الحرب .. من لهم؟

بوح الحبر   (د. الحبر عبد الوهاب)

في أحد شوارع القاهرة أجرى "يتيوبر" مصري لقاء سريعا مع فتاة سودانية ضحية من ضحايا الحرب، قذفت بها الأقدار هناك. كانت الفتاة في حالة مبكية بشعرها "المنكوش" وجسدها النحيل، ورجلها المكسورة، تفترش الرصيف وتلتحف السماء، وتقتات بما يجود به الكرام من الطعام! ومن إجاباتها عن أسئلته أنبأت بأن أفرادا من الميليشيا قتلوا أمها وأباها واثنين آخرين من عائلتها، وأنها تعرضت للاغتصاب من قِبل الجناة! وأنها الآن تريد "شقة" أو بيتا يحتويها!  

تابعت "الرابط" حتى وصلت إلى صفحة "التائهون في ولاية الخرطوم"، وهناك وجدت أن "التيه" لا يقتصر على ولاية الخرطوم فقطولكنه ظاهرة مؤلمة محزنة مخزية عمت كل السودان!

المفقودون منذ نشوب الحرب، والذين خرجوا ولم يعودوا، والذي أُسروا ولم يُعرف مكانهم، أعدادهم لا يمكن حصرها، ولا تُعرف جهة ـ حتى الآن ـ تجيب عن أسئلة أهلهم وذويهم عنهم. والذين تُعرض صورهم، في القاهرة أو القناطر أو أسوان، أو عطبرة أو مدني أو بورتسودان، ربما تغيّرت ملامحهم كثيرا وأصبحوا هياكل عظمية! هذا يُستشف من بعض التعليقات، من مثل: " كأنه ابننا"، و"كأنها عمتنا".

هذه الحرب التي أخلت المدن من سكانها، وشرّدتهم، وجاءت بآخرين من وراء الحدود، لا تشبه الحروب التي اعتاد عليها السودان مما قبل استقلاله! حيث كانت المرأة تُحترم عفّتها وتُصان، والأطفال لا تُنتهك طفولتهم، وكان "الإخوة" الأعداء يتواجهون في الميدان والصحارىوالأحراش، وليس في أزقة المدن والقرى وداخل البيوت المحرم دخولها دون إذن! ويتركون عائلاتهم في الخرطوم أو مدني أو الدمازين، على مرأى من خصومهم، بل بجوارهم، لإيمانهم أن للقتال شرفا، وللرجولة شرفا، وللنساء حقا، وأن من اعتدى على عرض أخيه سيُعتدى على عرضه يوما ما.

هؤلاء المشردون التائهون يجب على الحكومة ومنظمات المجتمع المدني أن تحتويهم بعد وضع الخطط لذلك، بدءا من البحث عنهم، إن بالداخل أو بالخارج، وحصرهم، وتهيئة دورٍ إيواء لهم في المدن الآمنة، دورٍ خاصة بالأطفال، وأخرى خاصة بالنساء، وثالثة خاصة بالرجال، ونقلهم إليها، وتوفير الرعاية الطبية والدعم النفسي لهم، وتكثيف العمل الإعلامي، خاصة الإعلام المرئي الرسمي، ليتعرّف عليهم أهلهم، وليتعرفوا على أهلهم ويعودوا إليهم.

ومما يحمل على الاطمئنان على أن مثل هذه الأفكار والمقترحات يمكن تنفيذها أن الحديث عن المفقودين وتخصيص مواقع لذلك ـ كله تقريبا ـ صادر من أفراد وجهات مدنية وليست "رسمية"، مما يؤكد أن السودان ما زال بخيره، وأن الذين أقاموا "التكايا" المجانية لإخوانهم النازحين قادرون على احتواء المشردين، وطمأنة نفوسهم، والوصول بهم إلى ذويهم.

إن ترميم ما دمرته الحرب ماديا ومعنويا ـ قبل إعمار المدن ـ يبدأ من تقديم الدعم النفسي للذين حطمتهم ويلاتها معنويا، فهم لم يعتادوا على الحروب وأهوالها وبشاعتها، ولم يعتادوا على قسوة فاقت مدى إدراكهم البريء، ولم يتخيلوا يوما أن يحتل غريب معتدٍ بيوتهم بقوة السلاح، ويحملهم على النزوح ليصبحوا نازحين مشردين في مدن بعيدة، غريبة، لم يسمعوا عنها من قبل إلا في نشرات الأخبار!

فلنكن كلنا أهلا داعمين لمشردي الحرب، نردُّ من كان منهم خارج الوطن إليه بكرامته، ونصون حقوق من هم بالداخل من خلال دور الإيواء التي تجمع هؤلاء وأولئك، ولا نترك فرصة لمخيمات اللجوء الأجنبية لتطل برأسها علينا، لأننا إن فعلنا ذلك فسيكون عارا عظيما علينا!

 

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار