الجمعة 31/أكتوبر/2025
منتصف الدائرة

نبض الكلمة
رندة المعتصم أوشي

كانت وقفة في مجلس الأنس الجميل، في "رفاعة أب سن"،
غير أن أمامنا إبحار في ينبوع متصل من الخلق الجمالي في صنوف الشعر الغنائي.
التفت جمهور الغناء إلى صوت غنائي جديد، هو غناء المدينة برِقّته، بلطفه، سرى عليه صَبا من "بادية العربان" فزهى وتأنّق.
إنه جيلي عبد المنعم عباس، ابن المدينة الفارهة العتيقة.
كان يمضي باكر صباه في حواري المدينة، ثم لا يفوته أن يزور الشط المخملي، الحدائق، أشجارها اللفّاء، حتى إذا انحسر ثوب المغيب بعد نهار مشمس طويل، أقبل الليل، وكم في الليل من استراحة وترويح وإمتاع.
إذا سألت ذات يوم عن العلاقة بين الثقافة والجمال، لا تجهد عقلك، اذكر "رفاعة أب سن" يفهم الأمر.
كانت مدرسة رفاعة الأهلية الوسطى، "مدرسة شيخ لطفي"، تغص بفيض من اليافعين ذوي الحس الأدبي الرصين، ومعلمين ذوي قدر أدبي رفيع. أُسرّ في سمعك: اعلم أن الروائي الأعظم في مسار الرواية العربية، الطيب صالح كان معلماً في هذا الصرح التربوي الباذخ.
كان للمدينة أثر بالغ على الروائي العظيم، فقد كان يغشى مجالس الشعراء، يسمع أحاديث أهل "البطانة"، تدهشه أشعارهم. ولعلك تراه يضع في استهلال روايته العظيمة موسم الهجرة إلى الشمال، يورد:
"الدرب انشحط و(اللوس) جبالو اتناطن
والبندر (فوانيسو) ال بيوقدن ماتن"
في هذه الأجواء وما يغمرها من وحي وإيحاء، هذا المكان الذي أودع في روح الأديب الجميل إشارات عالية، كيف تظن أثره على اليافع جيلي عبد المنعم عباس؟
كان الشاعر محباً، عاشقاً لمدينته، قلبه الكبير يخفق بعاطفة متأججة، عليم بأهلها: "ركابية"، "سناب"، "قبتاب"، "عايداب"، "رباطاب"، فادنية، جعليين ولحويين.
كان "يتسكع" متأملاً، يجوب شوارع المدينة، حتى إذا أقبل الليل، حملت الأنسام أصوات غناء، همس فرح، طار الصبي، يسعده الغناء، يأخذ بقلبه. غير أن للعيون السود، الشعر المسدل كليل محاق، منثوراً ومطوياً، فعلاً. لقد صوّر الخليل هذا المشهد البديع:
"الضمير والعود والعيون السود
في البطانة كتار"
وهل البطانة إلا رفاعة، وجهها المشع المضيء؟!
كان صديقنا يخزن كل هذه المرائي، أثقلت روحه، حتى إذا انتسب إلى حنتوب الجميلة، بدأ الشعر العذب الفتون يفصح عن مقامات جديدة في كتاب الغناء السوداني:
"لم يكن إلا لقاء وافترقنا
كالفراشات على نار الهوى
جئنا إليها فاحترقنا"
وهنا اتصال وجداني بين خليل فرح وجيلي عبد المنعم. أورد خليل في إحدى حسان أغنياته:
"في لهيبك أشوف ساحل
كالفراشة أجيك راحل"
انظر إلى أسطورة الفراش، صلته بالنار، وكيف صوّروه عاشقاً شغوفاً، أو وثنياً يقدّس النار. جيلي عبد المنعم سلك ذات الدرب، ذكر الفراش مقروناً بالنار. ربما نتنبه لوحدة المكان هنا، خليل كتب فلق الصباح وهو يسوح في أطراف "البطانة"، وجيلي عبد المنعم ينتمي لهذه الأمكنة، ولك أن تتأمل:
"بالذي أودع في عينيك إلهاماً وسحراً
والذي أبدع فيك الحسن إشراقاً وطهراً"
ما ألطف هذه الرجاءات التي كُتبت بأحرف خضر؛ ألا يعيدك هذا إلى العهد العباسي، وأمير الغزل الشريف الرضي:
"أنت النعيم لقلبي والعذاب له
فما أمرك في قلبي وأحلاك"
هي ذات الرقة، العذوبة في أزهى صورها.
كان محمد وردي كثير الاحتفاء بهذا الشاعر المطبوع، لعله وجد في أشعاره ما يلمس بعض هوى، صبابة ونداءات قديمة. كتبت أجمل أغاني جيلي عبد المنعم وهو في زهو الشباب، وكان مسرحها ميادين حنتوب الثانوية College كما يردد "مستر براون"، أول ناظر لمدرسة العباقرة.
يقرأ محمد وردي كلمات صديقه الشاعر الأنيق، يفعل ذلك بحب عميق، وإذا قرأ وردي شعراً، فإنه يغني لا ريب.
ألتقيك قادماً في منتصف الدائرة، نكتب كلمات تحت إشعاع هذه الأمكنة الفاتنة، فهل تصحبني؟

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار