 
            خليك دبلوماسي
محمد مامون يوسف بدر
لم تكن مجرد أغنية، بل كانت شهادة ميلاد وجنازة لعصر بكامله، حين انسابت أنغام "همس الشوق" من حنجرة الأسطورة محمد الأمين الباشكاتب. لم تكن مجرد كلمات تغازل الأسماع، بل كانت ذاكرة وطن نازفة وشوقًا لإنسانيتنا الضائعة.
لقد بكيت كما بكى الآلاف عندما سمعنا تلك الأغنية التي اختزلت زمناً جميلاً؛ زمن ليالي نادي الضباط حيث كان الفن والأصالة، ود الأمين والعازف أسامة بيكلو، تلك الأيام التي كانت فيها الأغنية السودانية أصيلة، تحمل روح الشعب وقلبه النابض.
لكن الألم الحقيقي لم يكن في استعادة ذكريات جميلة فقط، بل في الطريقة التي رحل بها الباشكاتب؛ رحل في صمت مطبق، دون جنازة تليق بإرثه، دون أن نتمكن من توديعه بالصلاة والدعاء، ودون أن يضمه تراب الوطن الذي غنى له طوال عمره.
إنها مأساة عميقة أن يرحل فنان بهذا الحجم. نعم، الموت حق وكل من عليها فانٍ، ويسائل أولئك الذين حولوا هذا البلد إلى ساحة للخراب والدمار.
هل يعرف المرتزقة ما ارتكبوه من جرائم؟ هل يدركون أنهم لم يدمروا المباني والحجر فقط، بل دمروا الروح؟ لم ينهبوا الموارد فقط، بل سلخوا الهوية؟ لم يقتلوا الأحياء فقط، بل داسوا على تراث الأموات؟
لقد قتلوا الأحلام والجمال، وأطفأوا الأنوار التي كانت تضيء دروبنا، ودفنوا رموزنا في صمت ليقتلوا الذاكرة الجميلة لهذا الشعب.
لكنهم لن يدركوا أن الفن أقوى من الرصاص، وأن الأغنية أبقى من الدبابة، وأن ذكرى الباشكاتب وأمثاله ستبقى تشع في وجداننا رغم كل محاولات الطمس والإخفاء.
رحل الباشكاتب جسدًا، لكنه بقي بصوته وألحانه وأغانيه. بقي رمزًا لعصر كان الجميع فيه أحرارًا يعيشون بكرامة ويغنمون بالجمال.
اللهم ارحم فناننا الكبير محمد الأمين الباشكاتب، وأسكنه فسيح جناتك، واجزه خير الجزاء عما قدمه من جمال وأصالة لفنه ووطنه.
0 التعليقات:
أضف تعليقك