الجمعة 31/أكتوبر/2025
وسوسة الألحان

نبض الكلمة
 رندة المعتصم أوشي

كانت الرحلة طويلة شاقّة، اعتراها شيء من الفتور والرهق، ونزلاء الحافلة الأنيقة يتثاءبون ويتبادلون صحفًا بائسة المضمون والتحرير، بلا ترتيب. أدار السائق آلة "الحاكي"، فتدفّق الصوت العذب الطروب، ثم هدأت ضوضاء المكان، وران صمتٌ، وخلد كلٌّ إلى "دفتر" الذكريات التي ظنّ أنها أغفت، لكن هيهات! وصوت "أبو السيد" ينثر خارطة للحب والرجاء والتذكّر:
"أعلى الجمال تغار منّا
ماذا عليك إذا نظرنا
هي نظرة تُنسي الوقار
وتُسعد الروح المُعنّى"
يعتريك بعض شك، وشيء من الأوجاع ينقر جدار القلب وأنت تُصغي. كيف استطاع إدريس جماع رسم هذه اللوحة البديعة؟ كيف كان ظرف الوحي والإيحاء والمثير والاستجابة؟ هل كانت لحظات صحو ويقظة، أم هو حلم فتح أبوابًا أُوصدت ردحًا من الزمان؟
ثم انظر معي إلى هذا البوح التقريري الذي ينتسب إلى محط أشعار العذريين وشيخهم جميل بن عبد الله بن معمر: "هي نظرة"، ليس أكثر. نظرة لا يعقبها ابتسام، ولا موعد، ولا لقاء. إنه عشق الفارس، ونُبل وطُهر المحبّين.
وسيد خليفة، بصوته الذي يلامس القلب، يدخل إلى التعابير والتراكيب التي شيّدها إدريس جماع، كتبها والقلب مؤرّق، وأودعها حشاشة الروح، فأبقاها "أبو السيد" زمانًا طويلاً حتى إذا رضي عنها أطلقها.
ثم انظر لروح الشاعر، كيف استضاء بنور معتقده، يقتبس من موروثٍ ينبوعٍ لا ينضب:
"يا شعلةً طافت خواطرنا
حواليها وطفنا
آنست فيك قداسةً
ولمست إشراقًا وفنّا"
جعل الحبيب شعلة تطوف حولها الخواطر، وهذا مشهد شعائري ديني يتصل بحج البيت والطواف بالبيت الحرام، وليس في هذا وثنية، إنما توظيف لخيالٍ جموح. ثم إن الشاعر يُورد "طهرًا" و"قداسة"، ويضع مفردة "آنست"، فيُحدث نقلة عبقرية تُضفي حُسنًا وجلالًا على النص.
سيد خليفة وإدريس جماع نهلا من صفو ينبوع العربية الجميلة، من المفردات الحيّة، وصدق العاطفة، وثراء التجربة، فترك كلٌّ منهما أثرًا وأصداءً في روح الآخر. كان "أبو السيد" يقرأ النص الرائق، يسمع إيقاع المفردة، ويحس بخفق قلب جماع وعذابه وأوقات مخاضه الشعري العنيف.
كان اللحن يُوسوس في خاطر سيد خليفة، يصحبه في كل آنٍ ومكان، حتى إذا جلس أفرغ مكنون إبداعاته، فاستبانت فكرة النص اللحني الموسيقي، ثم أطلق صوته ليسكب عطرًا على منتجه البديع.
تغنّى سيد خليفة بكل ضروب الغناء. ليتك تسمعه وهو يتجلّى في روائع "حقيبة الفن"، يشجيك بـ"متى مزاري" أو "نظرة يا السمحة أم عجن"، فيحملك بأجنحة الألحان، ترفّ بك كالفراش بعيدًا... بعيدًا.
ثم وطنياته:
"بتذكر فيك عهد صبايا
على شاطئ النيل
وحبيبي ساهر معايا
أسمر وجميل"
ثم يغنّي لـ"المنديل" وتلك العهود ورومانسيّتها البهيجة.
ثم أغنيته التراثية العظيمة التي كان يصدح بها، فترتجّ ساحة الحفل ويرقص الناس على وقع معانيها وإيقاعها:
"غنّي وشكري الطيب الإخلاص
انكسر المرق واتشتّت الرصاص
انهدم الركن وين البلم الناس"
تنتاب الحفل نوبة زهو وافتخار، وتنبعث النداءات القديمة، وتتوالى صيغ المعاني الرفيعة الزاهية، ويسري الحديث الشجي عن الخليفة:
"يلاقيك الخليفة أب
ضهرا سفينة نوح"
وتُستحضر صور الدراويش و"الطرابي" والساقية التي تطنّ، ويجتاح الساحة رقص متنوّع تتّحد فيه الأجيال في أداءٍ واحد، إنها "العرضة السودانية" التي تشبه مقام النص ولحنه وقيمته الفنية والتراثية.
في المخيلة... الشيخ الخليفة وبلده:
"بلد اللندرة يا سيدي شقيتا
والجرح المغور لحقت بريتا"
هذا هو "أبو السيد"؛ تراثٌ حافل بمنتجٍ إبداعي رفيع، وأغانٍ لا تُحصى، لكنها عميقة المنبع، عالية المنسوب في سلّم الإبداع.

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار