****************
الزبير نايل
لن أنسى تلك الليلة التي سبقت صعودي للطائرة أول مرة.. كان الأمر مربكا للحد الذي جافاني النوم يومها وأنا حبيس خيالي ورهين هواجسي إذ كيف سأكون محلقا مع الطيور بين السماء والأرض،، ومع ذلك فقد كنت استعجل الساعات بفارغ الصبر لأعيش تلك اللحظة..  

ذلك الصوت العميق الذي كان يهتف داخلي ويمسك بتلابيبي ليلتها لم أكن أتبين له تعريفا، ولكن مع مرور الأيام أدركت أن ذلك يسمى (الشغف) وهو حالة تعتريك وتجعلك تتطلع بلهفة تخالطها متعة للإقبال على أمر ما. 

هذه الحالة قوة لازمة ودافعة لارتياد الصعاب وكسر الحواجز وصنع المستحيل لبلوغ ما تبتغيه وبدونها تتلاشى تلك الحرارة الكامنة وتصبح عاجز الدواخل حتى لو تحالفت كل الظروف لصالحك وينطفئ بريق وسحر الأشياء لديك .. 

والشغف يُرقق الوجدان ويُرهف المشاعر لذلك وضعه العرب في مرتبة متقدمة في تصنيف أفعال القلوب التي تبدأ بالحب وتصعد إلى الهوى ثم الكلف، فالوجد، فالعشق، ثم الشغف، فالغرام، ثم الهُيام.. 

امرأة عزيز مصر افتتنت بجمال سيدنا يوسف عليه السلام افتتانا بلغ بها مرحلة الشغف (قد شغفها حبا).. وقد أخرجها ذلك الشغف عن وقارها ومكانتها ودفعها لأن تراوده عن نفسه.. شعرتْ بالحرج عندما شاع الخبر بين نسوة المدينة فقامت باستدعائهن ليقعن من أول نظرة في ما وقعت فيه بل بلغ بهن الشغف أن قطعن أياديهن.. 

وفي قصيدة (أغدا ألقاك) التي تغنت بها أم كلثوم نجد شاعرنا الكبير الهادي أدم قد مزج بشكل مبهر بين الشغف واللهفة وجعل من قصيدته عنوانا للهفة الترقب وشغف الانتظار...

أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غدِ
يالشوقي واحتراقي في انتظار الموعد
آهٍ كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابا
كنت استدنيه لكن هبته لما أهابا

الحياة تفقد كثيرا من بريقها إذا انحسر عنها الشغف لأنه الدافع لارتياد الآفاق وبلوغ المرامي...نحن الآن نمر بظروف شديدة التعقيد تتطلب منا أن نبقي ذلك الشغف مشتعلا وألا يخبو في أنفسنا.. شغف عودتنا للديار والأهل والأحباب وأن ما ننتظره سيكون الأجمل لأن الشغف هو قرين الأمل سر الحياة.. وقد قيل: 
ومن لم يعانقه شوقُ الحياة تبخر في جوِّها واندثر..