 
            نبض الكلمة
رندة المعتصم أُوشي
نسمع أغنيات أساطين الغناء، تصحبنا في دروب حياتنا، هي ملاذ حميم، مدفأة في شتاء الأيام، نسيم صبا، تطرح صوراً فيها أطياف من وله، وفرح مشرق، وشيء من أسى.
غير أن هذا المنتج الجمالي البديع ما كان ميسور المنال أبداً، ولكم اعترته من مشقة، وسهد، ومخاض عسير. ولنا أن ننثر إضاءة ساطعة على مصادر هذا الإبداع وجذره.
قدّم محمد عثمان وردي دفاتره "مدونة" لذاك التراث الغنائي من خاصرة الشمال، غير أن الأقدار هيأت له الدخول إلى عوالم "الانتلجنسيا" السودانية، فأخذ من رحيق ثقافات متنوعة ورصينة كان وقعها حاسماً في مسار الغناء السوداني. كان كثير الحديث، جم الامتنان لصديقيه علي عبد القيوم، وعمر الطيب الدوش، تجلياتهم وإبداعاتهم. غير أن وردي كان ذكياً، إذ مد جسوراً من الألفة والوصل مع شعراء آخرين، نظر في لوحات مبهرة للغناء المطبوع، فكان محمد علي أبو قطاطي ينبوعاً من الغناء الحلو، يزوره في تلكم الضاحية الجميلة "العجيجة"، ثم هب نسيم لطائف الغناء الشائق.
أما عبد العزيز فقد كان أمره عجباً؛ الخلوة، والمسيد، والتلاوات، والإنشاد، هي سر أسرار النضج والنبوغ الفاره. كان يغشى جلسات السمانية، يشهد مقام الأذكار وفنون المدائح ونقر الدف (الطار)، يطوف على "حمد النيل"، وحميّا "الصيحات" تعصف بروحه، ترسم إرهاصاً غدا صرحاً عمرته جلائل الأغنيات.
علي المك، ينتمي ثقافياً وفكرياً لطيف "الانتلجنسيا"، فتح أبواباً مشرعة، نهل منها عبد العزيز، فتعتق رحيق الغناء فصيحه ودارجه. وإن عبد العزيز ليُشجيك، يعصف بقلبك وأنت تسمع "صبابة" أو "أجراس المعبد"، ثم ينقلك إلى أجناس من اللوعة: "حقيبة الفن"، وشيء بين هذا وذاك. يسمعك: "في حب يا إخوانا أكتر من كدا" كتبها فضل الله محمد، فكأنما يعبر أبو داوود بين الأجيال المبدعة ينتقي ما علا قدره.
الصوت الصوفي الناصع الذي يختبئ في أوتار الحنجرة العظيمة كان بعضه أثراً لعلي المك، فقد حدّث عبد العزيز عن "البردة" وأسمعه ابن الفارض:
"أحرق بها جسدي وكل جوارحي
واحرص على قلبي فإنك فيه"
كان وقع هذا حاراً على عبد العزيز، أضاف وتراً جديداً، ثم لا يبرح أن يتنقل بين ينابيع كثر. وما نسي "الدوبيت" و"النم" و"الرميات":
"جلسن شوف يا حلاتن
قالوا لي جن بريدن
الحبايب حبابن
الناعسات كاحلاتن"
أو:
"قول لأهلنا ما ترجونا
ما بطيق الصراح مسجونا"
وتبدأ "نقرشة" الكبريتة، ينبعث الصوت في "كرير" حار، وإيذان بـ"طنبرة"، و"طنابرة"، تفيض المشاعر ويزيد عبد العزيز نار الوجد ضراماً.
إنه عبد العزيز، مصادر إبداعه وعشقه لا يكاد نحيطها حصراً. في الدار الأليفة الكريمة، وُضعت على الجدار صور أساطين الغناء، صورة عبد الكريم "كرومة"، كتب أسفلها كلمات يانعات بخط أنيق:
"عيناه أغنية، عمامته
شلوخه المطارق
وصوته المملوء بالعذاب أغنية"
الذكرى، التذكر، إشارات الوداع المر، هو قاموس أبحر فيه عبد العزيز، وربما في هذا توافق مع الروح المتصوفة. وربما هو وتر حنين أصيل في تكوين أهل السودان العاطفي. غير أن حسين بازرعة أخذ من أفواه العامة تلك المفردة السودانية التي تعبر عن خصوصية. انظر معي إلى: "حليلا الفرقة من بكرة". ألا ترى فيها اختصاراً لكل معاني الوداع؟
"حليل الفرقة من بكرة
حليل الاصبحت ذكرى"
حسين بازرعة جل أغانيه مترعة باللوعة والحزن. هذا الموال قطرات من شهد الجبال، غير أنه صب في قارورة ختمت بأنّة وآهة، حالة بين رثاء ووداع، وإن صُوّرت بمفردات سهلة بسيطة.
فهل ترى في هذه المقاطع الحزينة إفصاحاً عن تجربة ذات خصوصية؟
"كتمت هواها في قلبي
وعشت على صدى حبي
سقيتو بدمي ودموعي"
وليس أعز من دم ودمع يُسكب. هذا هو حسين بازرعة وينبوع أحلامه الحزينة.
انظر إلى "قصتنا"، تلقَ الدموع حاضرة: "نحن عشناها بدموعنا". ظني أن "قصتنا" لوحة رُسمت بألوان سقتها أنفاس حرى، هكذا؛ حملت كل هموم الدنيا: الحب، الجراح، والأسرار المكتومة.
نعود إلى "الفرقة من بكرة"، وكيف صعد بها عبد العزيز إلى سقف، ذروة التجلي والإبهار. كانت لهاته تصدر المفردة منغمة، يعالجها، يبسط لها التجوال بين الأوتار، حتى إذا رضي عنها أطلقها تسبح في حنايا الروح.
https://3ctionsport.com
0 التعليقات:
أضف تعليقك