الجمعة 31/أكتوبر/2025
“ كلام للحلوة"

نبض الكلام
رندة المعتصم أوشي

كانت الخرطوم تنعم بأيام وليالٍ بهية، مترعة بالخير، السماء تاج عروس مرصّع باللآلئ واليواقيت، النجوم تنام في مشيمة السماء، الطرقات تغفو، تنام تحت ملاءة الليل.
كانت سينما كلوزيوم تتحف الرواد بأرقى مبتكرات روائع الأفلام: "صوت الموسيقى" و"زوربا"، "أنتوني كوين"، وذلكم الرقص الذي شدّ الأبصار، كان رقصه قيمة عالية، الموسيقى الريفية البريئة، حركة الأقدام، ثم الخروج إلى عوالم أُخَر. أليس هذا هو الفن في أصالته؟؟
كان صوت المذياع يصدح، يبث مواجع صبٍّ مدنف، و"أربعة سنين عاشم الحب"، صبية تتثنّى تحت أسر الموسيقى، عيناه تبرقان.
كان هاشم صديق الملك يعيش كل هذا الدفق الرومانسي الخلّاب: البيت الشعبي، الحوش الواسع، الحديقة الصغيرة، وشجرة نيم كثيفة الأوراق. كان الصبي يخزّن كل هذا في ذاكرته، تساقط الصور مثل قطر الأنداء على صفحة القلب، حتى إذا بلغ الأمر منتهاه، سالت ينابيع الأشعار، هامسة حينًا، مجلجلة حينًا آخر.
ثم كانت "كلام للحلوة" تروي مواجع، اعتراف ونداءات قلب ظلّ صامدًا، أشقاه ضرام، ملك الحب عليه قلبه.
انظر معي لاستهلال النص الشعري وما فيه من حداثة واستقلالية: "لما شفتك"، ألا يُرجعنا هذا الشاهد إلى عمر الدوش: "ولا الحزن القديم انت"؟ هي ذات المدرسة، ذات الجيل، الغناء الجديد الذي يبحث عن مسارات جديدة.
هذا النص يغصّ بالألوان المضيئة: "بق نور"، "نجم يلالي"، ثم "وهج النهار". هذا يفصح عن مخبوء روح شاعر مغمور بفرح غامر، يصحب كل هذه الأنوار الساطعة التفاتة لمشهد رومانسي جمع كل أطياف الجمال.
"لما شفتك ليلي ضوا
بق نور
ونرجس الجنة المفرهد
رف بجناح عطور"
هاشم صديق غرس وردة في حديقة الغناء العربي في أيامه النضر.
سعيد عقل كان يوظّف الإشراق أيضًا:
"يفرش الضوء على التل القمر"
يقطف الفل والياسمين، يضعه على صدر الحبيب. وهاشم صديق يروي عشق النرجس، جعله فراشًا يرفّ بأجنحة العطر. لكنه عاد إلى موروثه، بصوته السوداني، يتنقّل في مقامات هذا الكائن العجيب، الحب، يصطاف بين عشق وشغف ووله. ثم:
"غنّى فارسك خت صورتك في الإطار"
يخاطب زمانه بروح الفارس وكبريائه، معلنًا وثيقة وعهدًا لحب أضرم نارًا:
"يا زمان اسمعني واكتب
البريدا… ريدا سيدي
ريدي سيدا
الزمان لو حتى بالغ
ما أظن في يوم يعيدا"
وللأقدار كلمة، إذ تضع هذا النص الشرود بين يدي الباشكاتب "أبو اللمين". قرأ النص مرة، ثم أخرى، وفي حي "ود أزرق" في قلب الجزيرة بدأت تتنزّل أطياف الرؤى الموسيقية، أوتار العود تهمس، يعتريها رنة حزن، ثم شيء من وله. يحلّق بك الباشكاتب عاليًا، يصحبك، ولكل مفردة، بل لكل حرف مقام لحني. اسمعه:
"فجأة عينيك الحبيبة
قالوا سارح وين مسافر"
انظر إلى مفردة "الحبيبة"، كيف فعل بها الموسيقار العبقري، بل كيف فعل بقلوبنا؛ كأنما أراد إطالة أمد الإثارة، وكأنه يروي حكاية عشق بتفاصيلها، اختصرها كلها، كلها في هذه المفردة: "الحبيبة".

0 التعليقات:

أضف تعليقك

آخر الأخبار